هل حب الوطن مادة تدرس؟! هل الوطنية وصدق الانتماء والاعتزاز بالوطن دروس ومواعظ؟! أم أنها أرض تقل، وسماء تظل، وماء يروي، ولقمة تسد فحسب؟ أم هي تاريخ وموروث وبطولات ومعاناة تمتلئ بها الوجدانات وتثري وتقوي وتصلب الأجيال ليواجهوا عواصف الرياح وعوادي التغيير وتيارات طمس الهويات؟!
هل الوطنية محاضرات تلقى؟ أو حقن تغرز؟ أو حكم تصب في الآذان؟ أو بيارق وإعلام ترفع وأناشيد تغنى؟!
أم أن الوطنية الحقة فناء مطلق في ذات الوطن، في مهجته، في ذرات ترابه، في سكونه وعواصفه، في حره وقره، في سهوله ووديانه في جباله وصحرائه في هضابه وروابيه، بفقره وغناه، بشحه وعطائه، ببطولاته وتاريخ آبائه، برسالته الخالدة التي أهدت النور إلى البشرية، وبه رحم إبداع وخيال وشعر ونثر وحكمة وخطابة وبلاغة وعلم ودعاة إلى الخير والفلاح لا في هذه الجزيرة الأم فحسب؛ بل إلى محيطها العربي والإسلامي، كما صورته الدولة السعودية في كل مراحلها الثلاث المحفوظة والممتدة بإذن الله.
هذه هي الوطنية التي لن يلقنها المنهج، ولن ترسخها المناشط، ولن يحقنها الإعلام بخطابه المملول؛ بل تتفجر تفجراً، وتتشكل تشكلاً تلقائياً عند الأجيال بدون تعليم ولا تلقين ولا اغتصاب ولاء أو استدرار محبة. هو الوطن يتخلق في الوجدان روحاً ودماً ونبضاً وهواءً تتنفسه الذاكرة الحاضرة والسارحة في الماضي، هو الوطن لا تمثله حفلات إعلام ولا صخب إعلام ولا كتب منهج تنحت عباراته ومعانيه في إعياء؛ بل وطن تنحت حبه والولاء له والاعتزاز به الأوردة والشرايين والمهج المتخلقة منه وفيه لا الأسطر والصور والرسوم وعبارات التوجيه المصاغة بلغة الدعايات!
الحب عطاء، الحب بذل وسخاء، الحب إخلاص وفناء، الحب تضحية وفداء!
هل نريد أن يكون هذا الحب عذرياً متبتلاً شاعرياً خيالياً حالماً؟ أم نريده حباً متبادلاً بين العاشق والمعشوق؛ لا ينقطع بينهما وصل، ولا يحول بينهما هجر، ولا يفسد بينهما عاذل أو حاسد أو مأجور؟!
الحب عطاء متبادل بين العاشق والمعشوق وإلا أصبح حباً من طرف واحد!
كيف يمكن أن يتنازل العاشق عن مظالم وهجر وشح وقسوة معشوقه أحياناً؟! هذا هو حب الوطن المقدس الذي يعف الحبيب ويسمح ويعفو وينسى مهما غلا المحبوب في قسوته وشحه وعدم عدله!
لكي نؤصل هذه المعاني الوطنية الكريمة في وجدان أبنائنا؛ لابد لهم أن يدركوا أفضال وطنهم عليهم، لابد أن يشعروا بأياديه وفيض آلائه وكريم عطائه وجميل سخائه ليكون غناؤهم له بعد إغنائه لهم، وعطاؤهم له بعد إعطائه لهم، لا رداً لمعروف؛ بل حالة من تمازج المشاعر الصادقة بين الحبيب والمحبوب؛ لا حباً عذرياً؛ بل عشق احتضان ينجب ويعطي ويملأ أفياء الوطن بالذراري والأحفاد المخلصين!
الحب الصادق عطاء متبادل وإلا أصبح كذباً متبادلاً!
لا أتصور أبداً أن يتغنى بمعشوق من لا يمنحه قبلة، ولا أن يكتب شعراً في محبوب من لا يسخو عليه ببسمة، ولا ينتظر ثناء على شحيح، أو قصائد مديح على من لا يسخو ويعطي!
حب الوطن دِين ودَين؛ نورثه للأبناء وللأحفاد، حب الوطن والولاء له ولقيادته أمانة تحفظه من التيه والاحتراب والتصدع؛ حب الوطن في السراء والضراء، في المنح والمنع، في الشح والعطاء، في الرضا والغضب، في القرب والبعد عصمة لنا من التمزق والتفتت والمذلة وتسول انتماء لا يمكن أن نجده أو نتسمى به لو فقدنا أمَنا وأبانا وأهلنا وترابَنا المسكَ بحَرهِ ودهرهِ، بغباره وعواصفهِ وشح قطره.
الوطن بكل قسوته وبكل سياط حبه، وبكل عذاباته وعدله ومظالمه رحمنُا الأول والأخير الذي لا يمكن أن نحفظ سلالاتِنا بدونه!
moh.alowain@gmail.commALowein@