منذ الأزل وهو يدور بثوبه المرقع وسبحته السوداء في نفس الدروب والأزقة يرسم خطى أوجاعه فوق جبين الأرض، تتخلل بياض لحيته آثار لخيبات حملت وزرها نظرة تشي بحزن خفي وحنان لا ينقطع، وتلمح على جبينه المتغضن بقايا صور لماضٍ سحيق، أما ابتسامته التي ترسم خطوطاً عميقة حول شفتيه وعينيه، فهي تشي بطيبة نادرة تتعشق قلباً نابضاً بالحب، كان يحمل على كتفه حقيبة جلدية بالية أبى إلا أن يظل وفياً لسنوات لم تفارقه فيها، يخفي في أحشائها بضع قضمات من الخبز، وزجاجة ماء، وبعض ما يقدم إليه من طعام، في جعبته الكثير من الحكايا والقصص، يتجمع الأطفال حوله، فيسقيهم من حكاياته التي لا تنتهي.. لم يكن ما يحمله مجرد حكايا، بل كانت قصصاً من تاريخ تعاقبت انتصاراته وهزائمه على أرض سمراء تدعى بغداد.
كان الأطفال ينصتون إليه باهتمام، يأخذون دروس التاريخ من شيخ هرم، لم يدخل المدرسة يوماً ولا مر بالقرب من جامعة، ورغم ذلك، وحده كان بإمكانه أن يأخذ الأطفال في جولة يدخلون بها غرفاً سرية ملونة على تخوم قصور مسحورة، ويلعبون مع طفل اسمه الأمين، ويخاصمون أخاه المأمون من أجل لعبة، كان هذا العجوز يحمل كتب التاريخ في قلبه، ويخفي تفاصيلها في مآقيه.
لم يكن العم حامد متسولاً، ولم يرضَ لمرة واحدة في عمره أن يأخذ مالاً لقاء قصصه وحكاياته، لكنه كان يحب تلك الدوائر التي تكبر وتتسع حوله كلما وصل إلى أحد الأحياء، وما كان ليفوت تلك الأطباق البغدادية الساخنة التي تأتيه بمجرد وصوله، خصوصا عندما تفوح رائحة “الدولمة” اللذيذة - طبقه المفضل - الذي لم يعد لديه من يطبخه له بعد وفاة زوجه، ورحيل ولده الوحيد هرباً من جحيم اسمه الوطن كما قال.
تغيرت الشوارع وامحت معالمها، وتغربت الملامح فما عاد الكثير منها مألوفاً، وضاعت السمرة العراقية وأخذت مكانها وجوه دون لون ولا ملامح، لا تحمل إلا الموت والدمار ملامح تزرع الأرض رعباً، وغاب معظم الذين يعرفهم ويعرفونه إما تحت التراب أو خلف الجبال البعيدة، وحده ظل يدور في نفس الأماكن لا تثنيه طلقة طائشة ولا طائرة تنقش السماء بدخانها، لكن عمره زاد ألف سنة عما كان عليه، ولم يعد هناك من يتحلق حوله ليسمع، فصار يقص حكاياه على نفسه، ويصرخ بين الحين والآخر وهو يوزع غضب نظراته على وجوه لا يعرفها: “هذه أرضنا لن تخرجوني منها مهما فعلتم”.
في أحد الصباحات المعتمة تابع سيره إلى ذلك الحي العريق، حي أثريٌّ ما زالت أحجاره القديمة منذ أزمنة كما هي، تحمل على جنبات حجارتها السوداء المرصوفة بعرق الأزمنة الغابرة آثار خطى من مضوا، وصدى أصواتهم وبعض حكايا خيباتهم وأفراحهم، وعندما وصل إليه تعثر بماسورة سوداء توجهت إلى صدره عند بداية الحي، وجندي يرطن بلغة غير مفهومة يشير إليه أن يتوقف.
أشار الجندي إليه أن يعود من حيث أتى، إلا أن العم حامد أعاد إليه الإشارة ذاتها، ولسان حاله يقول: “عد أنت من حيث أتيت، هذا المكان لي”، ومشى بخطواته المنهكة الوئيدة باتجاه الحي الذي يعرفه جيداً حتى ولو تغير ساكنوه، لقم الجندي بندقيته وهو يصرخ بعربية مكسرة:”قف هنا”، إلا أن العم حامد لم يأبه لوجود الجندي، فهو لا يعتبره موجوداً على أي حال، صرخ مرة أخرى بعربيته المكسرة: “قف وإلا قتلتك”، إلا أن العم حامد لم يعد يسمعه في هذه اللحظة، بل صار يسمع صوت العربات القديمة التي كانت تخترق الطريق، ورأى الحوانيت وقد فتحت أبوابها، ورأى أصحابها يرتدون الزي القديم، رأى حي الوراقين وقد تزين بالكتب، وفوجئ بهارون الرشيد وهو يشير إليه أن يتقدم أكثر، فتقدم منه بخطى فقدت للتو شيخوختها عند منعطف غير مرئي لذاكرة تحتفي بالانتماء، كان يحمل في يده كتاباً عن تاريخ بغداد، كانت المرة الأولى التي يشعر بها العجوز بالدهشة، هو الذي كان يبيع الدهشة بابتسامة، اقترب العم حامد من الخليفة، فمد الأخير يده إليه، تعثر العم حامد ووقع على الأرض، لكن حجارة الرصيف المرصوفة تلقفته بشوق الأم وحنانها وعانقت ركبتيه دون أن يشعر بقسوة الحجر عندما ترتمي فوقه أجساد تشعر بالوجع، وعندما نظر مستغربا إلى الحجارة رآها وقد اصطبغت باللون الأحمر على مد نظره، لم يعد هناك حجر أسود واحد على طول الطريق، شعر أيضا بالبلل، واتسعت حوله بركة حمراء حتى أغرقت الحي، وارتفعت حتى غدت طوفانا، وصبغت الجدران القديمة والأبواب الخشبية، وتركت علامة بالدم على باب كل يهودي في الحي القديم، كان الجندي ينظر إلى العجوز وهو يتخبط في دمه، لكنه لم يستطع أن يرى الخليفة وهو يرفعه ويضمه إليه ويدور به في شوارع بغداد ويخبره عن فتوحات قادمة.