الأوقاف في الإسلام لها شأن عظيم. ومنافع لا تعد لما جاء في شريعة الله من حث عليها ونفع يشمل كل فرد حتى الحيوانات والطيور والسباع وغيرها، ورغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لها رعاية وعناية من ولاة الأمور ومن المحتسبين، وفي وصايا الموتى،
ونُظّم لها نظّار وقيودات وتنظيم، وقد تنوعت الأوقاف في كل بلد بما يناسبه فما يوقف هنا غير ما يوقف في البلد الآخر.
حتى أن بعض النساء يوقفن الحلي والثياب والفرش، لزواج الفقيرات جبراً لخواطر الفقيرات أيام عرسهن، والأوقاف تدخل في الصدقة الجارية، التي حثّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله الكريم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” متفق عليه.
وجاء الحث عليها لما فيها من نفع للفقراء والمساكين وعابري السبيل وذوي الحاجات والدواب والطيور وكل نفس رطبة قد تحتاج إليها في كل بيئة وعلى مرّ العصور بما يناسب حاجة الناس، لأنها على اسمها خيرية، لا يريد الباذل إلا بما له نفع للمحتاجين، سواء على المساجد أو الطرقات، بالماء أو الطعام أو الكساء وغير ذلك، أو الكتب على طلبة العلم، سواء كان وقفاً خاصاً أو عاماً.
وفي الآونة الأخيرة، أحب كثير من الآباء والأمهات، أن ينمّوا في أطفالهم حبّ الخير، فشجعوهم على المساهمة في الجمعيات الخيرية بما يوفرونه من مصروفاتهم، ومن المناسب التفريق عندهم بين الصدقة والزكاة والوقف.
وقد دفعني للحديث في هذا، ما رأيته في المساجد كلّها، من كثرة الكراسي الموقوفة، لأنه قد انتشر في هذا الوقت بعض أمراض الحياة الحاضرة مع توفر المواصلات المريحة والسريعة، ما جعل الناس يتخاذلون عن المشي، فتركوا المشي وتركهم، فاتسع الخمول مع توفّر الطيبات من الرزق الذي أحدث أمراض الركب، وخمول الأعصاب، سواء عولجت بالعملية أو الأدوية.
وليس كلّه من الكبر، إذ السابقون الذين لم يعرفوا ما جدّ من أمور، يبلغ أحدهم فوق أعمار المتأخرين ولا يشكو مما يشكون منه، لأنهم يعملون بسواعدهم.
ولما كان بعض الناس يجودون في رمضان سواء بالأوقاف أو الأعمال الخيرية الأخرى، فقد جعلت حديثي في محيط رمضان حيث ترق القلوب كل بحسبه، لأن رمضان شهر الجود والكرم، وشهر العبادة وحبّ الخير.. فتكثر فيه خطابات الجمعيات الخيرية، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، وكثير من الناس يعتبرون شهر رمضان بداية لإعطاء الصدقات والزكوات، في كل عام وهناك فرق بين الزكاة والصدقة: فالزكاة هي؛ حق فرضه الله في أموال الأغنياء، للمستحقين الثمانية كلّهم أو بعضهم بحسب ما يملك وما عند الإنسان، من حق الله، وهي ركن من أركان الإسلام، ولذا فإن تحفيظ القرآن ليس من الثمانية، ومن يريد دفعها للجمعيات الخيرية، أو جمعيات تحفيظ القرآن فعليه أن ينبه إلى ما دفعه بأنه من الزكاة، حتى تعطى لأصحابها لأن لديهم فتاوى بأن تعطى لمستحقيها الثمانية إن كان منهم طلبة أو مدرسين، ولا تبنى المساجد من أموال الزكاة، حيث صدرت فتاوى بذلك، وللأوقاف أحكام خاصة وفي كل عصر ينفتح باب من أبواب الخير، للصدقات والأوقاف.
ففي العصر العباسي حجّت زبيدة زوجة هارون الرشيد، ورأت المشقة التي يعانيها الحجاج، من بغداد إلى مكة لقلة الماء، بل حتى مكة الماء فيها شحيح فأخذت على عاتقها بأن تحلّ هذه المشكلة، وبعد الحج بدأت الفكرة تكبر ثم بالدراسة اختمرت الفرصة ومع المهندسين رسمت المعالم على أن يسير العمل مع طريق الحجاج، وأن يستفاد من السيول لتحوّل مجاري الأودية إلى بِرَكْ سمَّيتْ بِركْ زبيدة وهي بِرَكْ عديدة محفورة في الأرض ومساحة كل واحدة ما يقرب 20×25م وبكل بركة درج للنزول فيها، وجدرانها بالحجارة، وعمق كل بركة 20 متراً.
إذا مرّ بها الحجاج ارتووا، وشربت مواشيهم وحملوا ما يؤهلهم للبركة الثانية.
فَسُمي الطّريق من بغداد إلى مكة طريق زبيدة، وسُميِّت البِرَكْ بِرَك زبيدة، وإن كانت لا يمر بها أحد الآن وجعلتها وقفاً لله. وأنفقت عليها من بيت مال المسلمين كثيراً وليس من مالها وليس لها إلا الاسم، وفي مكة لكي تحلّ مشكلة المياه، فقد تتبّع المهندسون مسارب المياه ومجاريها، التي كانت من جبل الهدي وتنحدر غرباً، وتكوّن الينابيع التي تصبّ في وادي نعمان، وطبّق المهندسون بحكم فِطْرتهم، وفراستهم نظرية ما يسمى “الأواني المستطرقة، وقد اعتبر بعضهم المشروعين من أوقاف زبيدة.
وجعل لذلك مجرى واحد، سائراً من سفوح الجبال، حتى وصلت حيّ العزيزية، فعمل لها مجرى واحداً إلى داخل مكة القديم، وكانت مكة وقتها محدودة المباني، ويسهّل وصول الماء إلى مكة أمران: الأول كثرة الأمطار ذلك الوقت. الثاني أن الأودية والأمطار تنحدر من أعلى مكة شرقاً إلى أسفلها في حي المسفلة والكعكيّة، إذ طالما ذكر في التاريخ أن السيّول تدخل في الحرم، ويطوف الناس سباحة، حتى عَمِلَتْ المملكة التصّريف الجبّار بنفق تحت المسجد من سعته فقد أتيح المرور فيه، مع مجموعة في أتوبيس كبير، دخلنا من جهة المسعى تحت بيت أم هانئ، وخرجنا إلى المسفلة، وموقع بيت أم هانئ قريب من الصّفا.
هذا مسير وقف زبيدة - رحمه الله - وذُكِرَ أنّها رؤيت في المنام، فسئلت عمّا فعل الله بِكِ، بعد هذين المشروعين الكبيرين، فقالت: غُفِر لنا بأوَل مِعْوَل، وذهب المال إلى أصحابه، وتعني أنّه للمسلمين جميعاً، ولها بحسن النيّة.
وهناك نماذج من الأوقاف، منها ما يتعدى نفعه، ومنها ما فيه غرابة، ومنها ما نفعه محدوداً ومنها ما جدّ في العصر الحاضر، ومنا ما جُعِل في كلِّ مشكلة وقتيّة.
وقد كانت الأوقاف على الحرمين الشريفين في مصر، خاصة تمثل الرقم القياسي، في الأوقاف الإسلامية لمكانة الحرمين الشريفين من قلوب المسلمين، حيث قيل عندما كنت أدرس هناك، بوجود قرى كاملة بمزارعها وعقارات، كلّها خاضعة لأوقاف الحرمين، مكة ثم المدينة، ولكن النظام العسكريّ والتأميم قضى عليها وأضاعها.
ولأهمية الماء في المناطق الصحراوية، فإن كثيراً من الناس فيها، يردّدون القول المأثور: من كَثُرَتْ ذنوبه فليسق الماء، فحظيت أوقاف المياه عندنا بمكانة كلّ حسب طاقته، حفر الآبار ورعايتها، والمساهمة بالحبال والدلاء، وتأمين المتطلبات، والنفقة، ومن لا يستطيع يساهم بجهده البدني، فيما ينفع المستفيدين، وأضعف هذا الجهد أن يجذب الماء في الأحواض، لمن جاء ليتوضأ للصلاة ومساعدة الضعفاء: رجالاً ونساء، فبرزت هذا الأوقاف في الوصايا والمواريث، وعلى طلبة العلم بمكة والنموذج وقف صَوْلَتْ النساء في مكة المكرمة، وهي امرأة ثريّة هندية، وقيل إنها ملكة “بهوبال”، أرادت أن تحل مشكلة السكن بمكة للحجاج الهنود، أن تبنى أربطة وقفاً لله للسكنى في حدود عام 1289هـ. لكن الشيخ رحمه الله الهندي الذي جاور في مكة، وَحَماهُ السّلطانُ محمود، بعد مناظرته مع القس الإنجليزي اقترح عليها أن يكون الوقف باسم مدرسة في مكة، فأعطته المال بعد الحج وبنيت المدرسة، وسميّت المدرسة الصّولتية، وأوقفت عليها أوقافاً، وكان الرعيل الأول في عهد الملك عبدالعزيز، وتولوا الأعمال منها، ومن مدرسة النجّاح التي أوقفها آل زينل في جدّة، وقد زار الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بعد دخوله جدة عام 1344هـ المدرسة وقال: “إن الصّولتية في بلادي هي الجامع الأزهر”.
والأوقاف في بلادنا وبلاد المسلمين، تحظى باهتمام كبير وكل على مقدرته، وفيها طرائف، وخاصة لفقر البلاد عندنا وفراغ اليد، وفي الزبير بالعراق، حيث كثرة المهاجرين من نجد، كان دويحس بن عبدالله بن شمّاس، قد انتقل من القصيم، ووسع الله عليه، وأحس بأهمية العلم، فرغب في عمل خيري، فاستشار الشيخ إبراهيم بن جديد، فأشار عليه بفتح مدرسة في الزبير لطلاب العلم، فأعجبه لحاجة الجالية هناك، ففتح مدرسة لهم في الزبير عام 1186هـ، وذلك قبل اهتمام الحكومات، بفتح المدارس، فانضم لها عدد كبير نفع الله بهم، وأوقف عليها أملاكاً وعقارات في البصرة، ونفع الله بها.
-وفي نجد قبل انفتاح أبواب الرزق بما أفاء الله، كانت الحاجة الملحة في أمرين الماء بحفر الآبار وتوقيفها، وبطعام الصوام في رمضان، ويتم هذا بالجهد البدني تبرعاً، وبتوقيف تمر بعض النخيلات، فيجمع التمر ليوزع على المساجد التي يرتادها الفقراء.
-ومن الأوقاف الطريفة: أن امرأة وفرّتْ من الوَدكِ، وهو الشحم المذاب، ما جعلها تضيء الطريق في القرية لكبار السنّ في طريقهم لصلاتي الفجر والعشاء، ولا تعرف المصباح فعمل لها مصباح من الحجر فإذا انتهت الصلاة جاءت وأطفأته توفيراً للدهن، وفي أثناء الصلاة يأتي الفقراء بأقراصهم لتأخذ إيداماً من هذا الدهن، فمر شيخ كبير وقال: أحد يتصدق على السراج وأحد يأكل دهنه فأصبح مثلاً.
ومن الأوقاف الطريفة أنني وجدت في تونس وقفاً باسم وقف الدّبوجه، وهي القارورة يجمع فيها زيت الزيتون عند عصره فيؤخذ منه مقدار ما حُدّد في الوقف ليوزع على الفقراء، وفي دمشق كان أحد المحسنين أوقف صحناً صغيراً كالطبق لأنه رأى مملوكاً صغيراً يبكي لأن إناءه سقط وفيه العجين الذي ذهب به للفرن لخبزه وخاف من أعمامه أن يضربوه، فكان كل من حصل مثله يعطي طبقاً جديداً.
وفي البادية عندنا قبل عهد الملك عبدالعزيز يوقفون منائح الإبل والغنم للفقراء للاستعمال والحلب، فإذا جفت تعاد ويعطى غيرها، والآن كثرت أوقاف الكراسي في المساجد للحاجة إليها، وفي جامع أحمد بن حنبل بحي الريان أوقف شخص ما يسمى “كردة” عند كل باب تعين المصلي في لبس حذائه، وتسمى الملعقة، وكانت أوقاف المياه عديدة، لبني آدم والبهائم أو الآبار ففي كل مكان تجد القربة وتبدّلت الآن بالبرادات الكهربائية.. والأوقاف في كل مكان بحسب نفعها والحاجة إليها، وهي موضوع طريف حسب كل بيئة.
وبالنسبة للحرمين الشريفين، فقد اهتمت الدولة بجهود الملك عبدالعزيز، ثم بنوه من بعده، بالماء في الحرمين أولاً ثم تعميمه على المواطنين في المملكة بالمياه المحلاة من البحر في أكبر مشروع عالمي، ومدّت الشبكات بالنية الصادقة جزاهم الله خيرا.