للرثاء نبرة ونوطة في القلب وانكسار للنفس لا تكون لغرض شعري آخر فكيف إن كان رثاء النفس؟ فهو رثاء من نوع وطعم أشد مرارة وأعمق أثراً، رثاء لا يترك لك خياراً تلتقط أنفاسك لتصلح ما أفسده الدهر، صرخاته ليس لها ضجيج أو عويل وإنما هي حبيسة الأعماق وصداها يكون في الوجدان فنعرفها من دموع تتحدر على صفحات خدود قد حان قطافها.
فليس هناك عاطفة أصدق من أن يرثي المرء نفسه وقد أحاطها ما لم يكن يحسب له وما لم يكن يتوقعه وإن كان يعلم أن لكل أجل كتاب فهو في مخاض عسير يود لو يفتدي من عذاب يومئذ بكل ما أوتي من غالٍ ونفيس، فلا مسعف ولا طبيب وقد استلقى على قفاه فهو يتمتم بكلمات تكون آخر العهد به مع الدنيا: وما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فإنها تحشرج ويضيق بها الصدر، والنفس قد انكسرت فهو يستحضر كل صنيعه في الدنيا طيلة حياته بخيره وشره فلا ينقضي حتى يغمض عينيه فلا يحرك ساكناً.
فرثاء النفس حكاية حزينة نعيشها مع عبد يغوث بن وقاص الحارثي فهو من ذاق مرارة الموت وسكراته فرثى نفسه بشعر ظل الزمان يردد صداها عبر ألف وخمسمائة عام وسيردد ما شاء الله، فليس هناك أغلى على المرء من نفسه التي بين جنبيه فلا ينفس غيرها عليها وإن كانت أمارة بالسوء.
عبد يغوث بن صلاءة بن وقاص الحارثي القحطاني من بني الحارث بن كعب وكان سيد قومه وهو شاعر أيضاً ولكنه مقل وكأنه اختزل جودة شعره كله في قصيدته هذه التي تعد من القصائد الجياد في الشعر العربي قال الجاحظ: (ليس أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث، فإن قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما فلم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية).
وهذا صحيح لأن العاطفة صادقة فرثاء المرء لنفسه يختلف عن رثائه لغيره فتتولد الأفكار وتخرج كلماته بتلقائية وعفوية دون تكلف وتأتي الصور والتراكيب المختزلة في الذاكرة الشعرية بسهولة ويسر وقد استحضر كل ذكريات الأمس وما كان له وعليه من قبل ومن بعد، وعبد يغوث من أهل بيت معرق في الشعر في الجاهلية والإسلام فمنهم اللجلاج الحارثي ومسهّر الذي طعن عامر بن الطفيل في عينه يوم فيف الريح، ومنهم جعفر بن علبة وكان صعلوكاً وقُتل صبراً لدمٍ أصابه.
كان عبد يغوث فارساً وقد جمع بني الحارث وأهل اليمن ليغزو بني تيم وحلفاءهم، وتلك المعركة تسمى يوم الكُلاب الثاني وقد انتصر فيها بنو تيم وحلفاؤهم على بني الحارث واليمن وقد أُسر عبد يغوث حين انهزم القوم وقد سقط عن فرسه فأسره فتى أهوج من عبد شمس فطلب من الفتى أن يسلمه للأهتم على أن يدفع له مائة من الأبل حتى لا تقتله سعد والرباب فيستجير به فرضي فقال عبد يغوث يناشد الأهتم:
أأهتم يا خير البرية والداً
ورهطاً إذا ما الناس عدّوا المساعيا
تدارك أسيراً عانياً في حبالكم
ولا تثقفني التيم ألقى الدواهيا
فمشت فيه سعد والرباب إلى الأهتم وقالوا: قُتل سيدنا وفارسنا النعمان بن جساس ومصاد ولم يُقتل لكم أحد فدفعه إلى عصمة بن أبير التيمي فانطلق به إلى منزله فقال: يابني تيم اقتلوني قتلة كريمة فقال عصمة: وما تلك القتلة، قال: اسقوني الخمر ودعوني أنوح على نفسي، فجاءه عصمة بالشراب فسقاه، ثم قطع عرقه الأكحل وتركه ينزف، وهذا يخالف ما ذكره ابن عبد ربه في العقد إنه قُدم وضربت عنقه، ثم إنه جعل معه رجلين فقالا له: جمعت أهل اليمن ثم جئت لتصطلمنا كيف رأيت صنع الله بك؟ فقال:
ألا لاتلوماني كفى اللوم ما بيا
فما لكما في اللوم خير ولا ليا
يخاطب هنا اثنين حقيقة وليس على سبيل المجاز كما يفعل شعراء الجاهلية فإنه يخاطب الاثنين مجازاً وليس حقيقة كامرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل
وما لومي أخي من شماليا
أي كفاكما لوماً فإنها لا تنفع ما دامت ليست من الشمائل أي الخلق.
فيا راكباً إما عرضت فبلغن
نداماي من نجران ألا تلاقيا
ومن العجيب أن العرب لا تطلق راكباً إلا على راكب البعير أو الناقة، وهنا يطلب بمن يمر به أن يبلغ أصحابه ونداماه في نجران أن لا لقاء بعد اليوم أبا كرب والأيهمين كليهما
وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا
وهؤلاء هم نداماه أصحابه وكأنه يذكرهم وأبو كرب هو بشر بن علقمة والأيهمان هما الأسود بن علقمة والعاقب بن عبد مسيح وقيس بن معد كرب قال أبو الفرج: إن قيساً لما سمع ذلك قال: لبيك وأن كنت قد أخرتني، أي ذكرتني آخرهم.
جزى الله قومي بالكُلاب ملامة
صريحهم والآخرين المواليا
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة
ترى خلفها الحو الجياد تواليا
وهنا يظهر شجاعته أن لو شاء وهو قادر لهرب كغيره بحيث لا يقدرون على لحاقه وإن كانت خلفه الحو وهي أفضل الخيل قال الأصمعي: وقد اختار الحو لأنها أصبر الخيول وأخفها عظاماً وهي ما ضرب لونها للخضرة وهي كناية عن سرعته.
ولكنني أحمي ذمار أبيكم
وكان الرماح يختطفن المحاميا
أقول وقد شدّوا لساني بنسعة
أمعشر تيمٍ أطلقوا عن لسانيا
ولهذا قصة قال بعضهم إن هذا على سبيل المجاز أي أطلقوني ينطلق لساني بشكركم وقال آخرون لقد شدّوا لسانه بنسعةٍ حقيقة لأنهم عرفوا أنه شاعر فخافوا أن يهجوهم قال الجاحظ: وبلغ خوفهم من الهجاء أن يبقى ذكره في الأعقاب ويسب به الأحياء والأموات أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه العهود والمواثيق وربما شدّوا لسانه بنسعةٍ كما فعلوا بعبد يغوث حين أسرته بنوتيم يوم الكُلاب الثاني.
أمعشر تيم قد ملكتم فاسجحوا
فإن أخاكم لم يكن بوائيا
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيداً
وإن تطلقوني تحربوني بماليا
وهنا تنتهي مرحلة الاستعطاف وتبدأ المساومة ثم الفخر وذكر المحاسن ويقصد بأخيكم النعمان بن جساس
أحقاً عباد الله أن لست سامعاً
نشيد الرعاء للمعزبين المتاليا
وتضحك مني شيخةٌ عبشمية
كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا
ويقصد والدة العبشمي الذي أسره، فإنها ضحكت منه حين علمت أنه سيد القوم وقالت: قبحك الله من سيد حين أسرك هذ الأهوج.
وظل نساء الحي حولي ركّداً
يراودن مني ما تريد نسائيا
وقد علمت عرسي مليكة أنني
أنا الليث معدواً عليّ وعادياً
ومليكة زوجته.
وقد كنت نحّار الجزور ومعمل المطيّ
وأمضي حيث لاحي ماضياً
وأنحر للشرب الكرام مطيتي
وتصدع بين القينتين ردائيا
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا
لبيقاً بتصريف القناة بنانيا
وعاديةٍ سوم الجراد وزعتها
بكفي وقد أنحوا إليّ العواليا
كأني لم أركب جواداً ولم أقل
لخيلي كرّي نفسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزق الرويّ ولم أقل
لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا
وهذان البيتان رويا في قصيدة امرئ القيس مع اختلاف بسيط.
الكُلاب: قال الحموي: وادٍ يسلك بين ظهري ثهلان وهو جبل في ديار بني نمير لاسم موضعين أحدهما اسم ماء بين الكوفة والبصرة وقيل ماء بين جبلة وشمام على سبع ليال من اليمامة وفيه كان الكُلاب الأول والثاني وإنما سمّي الكّلاب لما لقوا فيه من الشر.
وقصيدة عبديغوث من (الطويل) وهي مختلة الترتيب كعادة أكثر الشعر الجاهلي فليس لها وحدة قائمة بعينها وإن كانت رثائية الموضوع وقد وصلت هكذا فلم يكن الشاعر في موقف يقدم ويؤخر.
وأبياتها أختلف فيها وهي على النحو التالي: في المفضليات وعدد أبياتها (20) بيتاً وأكثر الاعتماد عليها ونحن كذلك في الأغاني (18) بيتاً وقد أسقط البيت (13) (17).
وفي آمالي القالي وذيل الأمالي عدد أبياتها (19) بيتاً وأسقط البيت (10) وفي العقد لابن عبد ربه (18) بيتاً وقد أسقط البيتين (13) و(10) وفي الحماسة البصرية ذكر (14) بيتاً فقط وأسقط ستة أبيات وهو متخير لأبيات معدودة فقط من القصيدة.
وفي الخزانة للبغدادي ذكر (20) بيتاً وقد نقلها من المفضليات دون إسقاط أي بيت.
وعدّه لوبس شيخو من شعراء النصرانية لكون نجران متنصرة بعد حادثة الأخدود عبد يغوث شاعر مقل من شعراء اليمن في الجاهلية وهو سيد قومه بني الحارث بن كعب ولا شك أن قصيدته المرثية تعتبر من المراثي الرائعة التي خلدها التاريخ حيث إن رثاء النفس يعتبر أعلى مراتب الرثاء وأصدقها عاطفة وهناك الكثير من شعراء الجاهلية والإسلام ممن رثى نفسه وعلى سبيل الذكر لا الحصر كأمية بن أبي الصلت وطرفة العبد وخبيب بن عدي ومالك بن الريب المازني وهدية بن الخشرم وغيرهم.