كانت مسارح الطفولة ميادين معشوشبة بالرضا والبهجة والحبور؛ كان الناس طيبين أكثر من اللازم من حولنا، لم يكن ثمة ما يرفع قيمة أحد في شارعنا الطويل الممتد الضيق الذي لا تكاد تعبره السيارة إلا بحذر؛ لم يكن جارنا أبو زيد يجد في قوته أو ملبسه أو ذاته أو أصله وفصله ما يوحي له بعظمة مدعاة أو نياشين يعلقها على صدره أكثر مما يجد جاره الملاصق له أبو راشد. يمر الرجال المسنون الطيبون ذاهبين إلى المسجد والأذان يرفعه جارنا المؤذن البدين السمح بصوته العذب، فيتقاطر الجميع إلى المسجد دون إلحاح ولا حث ولا إكراه، يمشي أحدهم والسكينة تمشي معه، لا يتجاوزنا دون أن يلقي السلام مصحوباً بدعوة إلى الصلاة في حنان أبوة غامر وتواضع مرب حكيم. وإذا قضيت الصلاة انتشرنا متكئين على أعمدة الجامع نقرأ جزءاً من القرآن، حتى إذا قارب أذان المغرب وقفنا على طرف خط مستقيم متجهزين للانطلاق في سباق إلى منازلنا لنعلم أهلنا بالأذان. وهذه الليلة هي ليلة العيد الحافلة بمشاعر غريبة من النشوة والانتظار والفرح المبطن المستنهض المهيأ للزغاريد والارتواء والتورد، ليست ليلة عادية؛ إذ لا ننام إلا والثوب الجديد الذي لا يتوافر إلا ثلاث مرات في السنة نائماً بجانب المخدة، وبجانبه غيار كامل من الملابس الداخلية التي لها رائحة غريبة توحي بالجدة والبياض والزهو، وبجانبها أيضاً زبيرية من صنع حرفيي القرية أو جزمة متواضعة بنية أو سوداء، وحين توشك ليلة العيد على الانتصاف يهجع البيت ومن فيه إلى نومة هانئة معبأة بأحلام صباح يوم بهيج قادم حافل بمحبة نقية وصباح مزركش بأهازيج الزينة واللباس الجديد والعيديات التي ستهديها الأيدي الكريمة والقلوب العامرة بالحنان.
هذا الفجر يهدي تباشير يوم عيد، والصلاة توشك أن تنقضي وينصرف المصلون الذين ملؤوا الصف الأول الطويل كله بزيادة ملحوظة على الأيام العادية، ورائحة القهوة التي تطبخ على موقد الغاز تملأ أفياء المنزل الطيني الذي تزين وازداد ألقًا وجمالاً وترتيباً احتفاء بيوم العيد، ولن يكون ثمة وقت للانتظار فلابد أن يتوجه المنزل كله نساء ورجالاً وصبياناً إلى مسجد العيد لأداء الصلاة وسماع الخطبة المشهورة المحفوظة المكررة، وقد ازين الجميع بأبهى الملابس التي وفرتها دكاكين القرية؛ ثوب لم يكن بالتمام على المقاس، وشماغ له رائحة نفاذة لا تفسير لها يوشك أن يطير من رأس الصغير، وأحذية جديدة ووجوه نضرة وشعور خفي بأن الحياة حلوة ومطواعة ورغيدة ولا يمكن أن تتنكر أو تتغير أو تهدي ما يسوء؛ كانت هذه مشاعر الصغير ويده بيد أبيه وإخوته متوجهين إلى مسجد العيد الذي لوحت أشمغة المصلين له بلونها الأحمر من بعيد تحت خيوط منسلة من شمس يوم لم تسفر بعد عن إشراقها!.
عشرة ريالات! عشرة كاملة تلتف عليها أصابع يده بعد أن قبل رأس أبيه مباركاً له: هذه عيديتك يا ولدي! الله! عشرة! ماذا أفعل بالعشرة هذه؟! وإذا اشتريت منها ما أتمنى فماذا سأفعل بالباقي؟! هذا أول الخير ولأنتظر ما سيأتي ولكنه لن يكون في كرم والدي بكل تأكيد، سيكون ريالاً أو ريالين ممن سأعايدهم من الأعمام والأخوال؛ حدث الصغير بذلك نفسه، ثم اختفى في زحمة وجوه مبتسمة مشرقة وحفيف ملابس تُفض بكارتُها هذا الصباح الندي المبهج الواعد بعشرات الأيدي الممتدة بالحنان وبعشرات الأحضان المانحة الدفء والأمان.
ذلك صباح عيد طفولة ثرية لم يعد له أثر ولا خبر في عصر عيد المسجات المعلبة المنطلقة بضغطة زر بدل أن كانت بتراتيل شفة وأشواق قلب!.
moh.alowain@gmail.commALowein@