الأزمة السورية أزمة فريدة من نوعها من بين أزمات العالم العربي من حيث ظروفها وتجاذباتها، وهي تبرز أن التاريخ لا يعيد نفسه بل يخضع للمتغيرات الاستراتيجية المستجدة غير المسبوقة. وقد أفصحت هذه الأزمة عن أمور واضحة وجلية،
أخرى غير مرئية وغير مباشرة كثيرة من أهمها ملامح مخاض وضع عالمي جديد قد يفضي إلى تغير سلمي تدريجي في مراكز الدول العظمى في أفضل الأحوال، وإلى صراع عسكري موسع مباشر أو عبر حلفاء في أسوئها.
حيث يدرك النظام السوري جيدا اليوم أن الشعب قد تخطى حاجز الخوف وأنه لن يقبل بتغييرات تجميلية لنظام عاجز عن مواكبة التطورات العالمية والتاريخية. وكانت حساباته حول شعبيته وقبول الشعب به خاطئة ومغلوطة بالرغم من أنه أي النظام تنازل عن الجولان وعن موقعه العربي بتحالفه مع النظام الإيراني الحالي ذي التوجهات العدائية للدول العربية من أجل خلق جو من الاستقرار الداخلي لا يتأثر بالمحيط العربي المباشر. فقد ثبت أن أمورا داخلية مثل كفالة الحريات العامة والشخصية، وكسر الاحتكار للموارد، ومحاربة الفساد، وتحقيق النمو الاقتصادي المقبول أهم للاستقرار الداخلي من ترتيب العلاقات الإقليمية أو الدعاية الإيديولوجية. والنظام ينتقل اليوم ينتقل اليوم من تخويف الشعب لإرعابه بالقتل العشوائي المتعمد للأطفال والنساء، والانتهاك الجماعي للأعراض، والقتل بطرق بشعة غير تقليدية، والهدف ليس الحفاظ على الرئيس الحالي بل الحفاظ على النظام برمته لو اضطر للإتيان بوجه جديد عبر انقلاب أو تنازل.
ويبرزمن بين الجوانب الأخرى غير المرئية للأزمة عدم جدية التهديدات الأمريكية والإسرائيلية لإيران التي كثر ترديدها، إذ أبرزت الأزمة أن الحكومة الأمريكية ليس لديها الشهية ولا الرغبة أو ربما القدرة على خوض حرب جديدة في المنطقة في ظل عدم تعافي الاقتصاد الأمريكي، وفي ظل عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بإعادة انتخاب الرئيس أوباما. أما إسرائيل فقد فضلت الانتظار الحذر لعدة أسباب أولها خشيتها من الصواريخ الجديدة بعيدة المدى التي زودت بها إيران حزب الله والقادرة على إصابة العمق الإسرائيلي في ظل هشاشة الوضع السياسي الداخلي، وحساسية التوازنات الدقيقة للإتلاف الحاكم الضعيف. كما أن إسرائيل لا تريد الدخول في حرب مع إيران تؤثر في توجهات الثورات الشعبية التي تمر بها بعض الدول العربية الرئيسة كمصر والتي قد تتسب في التعاطف مع إيران كضحية هجوم إسرائيلي وهي أيضاً غير واثقة من البديل القادم للأسد في سوريا.
أما روسيا والصين فقد طبقتا حرفيا مبدأ التحالف مع الشيطان في سبيل مصالحهما، وهما لا ينظران للمصالح المستقبلية القريبة المباشرة في الشرق الأوسط بل تراهنان على المصالح الدولية البعيدة المدى في مناطق استراتيجية أخرى من العالم مثل إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية ووسط آسيا، حيث تشكل هذه المناطق مع الشرق الأوسط مناطق تخلخل سياسي يتشكل معه شكل العالم الجديد، وعليه فهما يعملان على جبهتين، الأولى سياسية تعتمد على منع انفراد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بقرارات الهيئات الدولية ومجلس الأمن كماكان يحصل سابقاً وذلك بتكرارهما استخدام حق الفيتو. وثانيهما تهديدهما بدعم سوريا وإيران عسكرياً في حال شن حرب عليهما.
ويدعم الموقف الصيني والروسي انتقال الثقل الاقتصادي والمالي العالمي لهما بعد إفلاس أمريكا وأوربا، وحاجة الدول الغربية الصريحة والواضحة للدعم المالي الصيني أو في أقل تقدير تعاون الصين لإنعاش الاقتصاد العالمي بتشجيع الاستهلاك الداخلي أو رفع قيمة اليوان لزيادة القدرة التنافسية للبضائع الأوربية. أما روسيا فقد حققت فوائض ضخمة من ارتفاع أسعار النفط والذهب ولم تعد بحاجة للدعم الاقتصادي الغربي الذي كانت بعض الدول الغربية تساومها عليه بُعيد سقوط الاتحاد السوفييتي. وأصبح في مقدورها الصرف على جيشها الضخم المترهل ودعمه بالتكنولوجيا الصينية والمحلية، فقد تحول الدب الروسي الجائع المستضعف إلى دب قوي متخم عدائي.
كما أن الصين بالذات وإلى حد أقل روسيا تدركان أن دول المنطقة المعادية لإيران وروسيا لن تستطيعا اتخاذ مواقف حاسمة ضدهما، فالصين هي السوق الأول الوحيد الآخذ في النمو للنفط وكافة السلع والمنتجات الأخرى، فتركيا مثلاً تحتاج روسيا والصين اليوم أكثر من أي وقت مضى لدعم الاقتصاد التركي المتسارع النمو بشكل استثنائي (8%)، فمعظم الدول التركمانية التي تشكل السوق الطبيعية للبضائع التركية تقع ضمن نطاق النفوذ الروسي. كما أنه لم يعد لتركيا ما ترجوه من الاتحاد الأوربي المفلس، بل إن الأتراك يحمدون الله على أن أوربا عارضت ضمها للوحدة الأوربية وإلا كان مصيرها مصيرا مشابها لليونان والبرتغال.
ما يتضح من الأحداث اليوم هو أن النظام السورى أدرك مؤخراً أنه لا مجال لاستمراره بشكله السابق، وأنه فقد مصداقيته كاملة أمام شعبه، وأن الشعب لن يثق في أي وعود يقدمها. ولذلك فهو إما خيارات سيئة في مجملها وسيحاول تقدير أقل المسالك سوءا له في المرحلة الحالية ويسلكه، فزيادة العنف العشوائي تهدف إلى كسب الوقت لتحديد الخيارات التي من بينها ما يسمى بالسيناريو اليمني الذي تدعمه روسيا وتعارضه إيران، ويتلخص في رحيل الرئيس وبقاء النظام بواجهة ديمقراطية شكلية، أما السيناريو الثاني فهو توسيع الحرب لخلط الأوراق خاصة مع تركيا التي يعرف السوريون ألا شهية لديها للحرب في ظل الاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، والشعبية الجارفة للحكومة، ومن هنا يمكن فهم التحرشات السورية الأخيرة بتركيا، وإذا لم تفلح في ذلك فستسخن الجبهتين اللبنانية والأردنية بتحرشات مماثلة، فهي تدرك حجم الاستثمارات الخليجية في لبنان، والأهمية الاستراتيجة للأردن وسيكون من شأن ذلك إبراز دور أكبر لحزب الله الذي يحتكم على ترسانة ضخمة من الأسلحة تعادل قوة دولة متوسطة الحجم في المنطقة، وهو فعليا من يحرك الأمور في لبنان اليوم من خلف الكواليس.
إشعال حرب كهذه لن تفيد سوريا بأي حال من الأحوال لكن الضرر عليها حسب مبدأ لا يضر ميت طعنة سيكون أقل من تأثيرها على دول مثل تركيا ولبنان والأردن. لكن ذلك بالمقابل سيهيئ الأجواء لإيران لإحكام قبضتها على العراق كتعويض عن نفوذها المتناقص في سوريا، وسيبعد الأضواء عنها لزيادة ترسانتها من الصواريخ بعيدة المدى، وربما صنع سلاح نووي، ولا يستبعد أن تتلقى دعما خفيا في ذلك من روسيا، بحيث تلعب إيران بالنسبة لروسيا الدور ذاته التي تلعبه إسرائيل النووية بالنسبة للغرب.
السيناريو الأسوأ والمرعب، والذي تكلم عنه هنري كسينجر، هو أن تنجر دول المنطقة إلى صراع دولي، ويمكن أن يكون سيناريو كسينجر حقيقة في حالتين، الأولى: دخول دول الأطلسي في حرب مع سوريا إلى جانب تركيا، وتورط روسيا فيها إلى جانب إيران؛ الثانية: هو تزايد وتعاظم القوة الإيرانية والنفوذ الروسي بشكل يسول لهما الطمع في منابع النفط في المنطقة، فقد كانت سياسة الغرب التي لا تحيد هو منع الدب الروسي من الوصول للمياه الدافئة في الخليج، وهو ما دفع بريطانيا للتخطيط لانقلاب ضد الرئيس مصدق في الخمسينيات، ودفع فرنسا وأمريكا لتسليم السلطة للخميني خشية وقوعها في يد اليسار الإيراني الموالي للسوفيات. غير أن الظروف تغيرت اليوم ودخلت السلطة الخمينية الإيرانية في تحالف قوي مع وريث السوفيات، وأصبح للروس موطئ قدم في المياه الدافئة.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif