كان أمس يوم عيد الفطر المبارك، وكان يوم فرح لعموم المسلمين لإكمالهم شهر صومهم الفضيل، سائلين ربهم أن يقبل منهم كل عمل صالح وراجين منه - جل وعلا - أن يكشف عنهم ما بهم من غمة، ويقر العيون بانتصار الحق واندحار الظلم في كل قطر من أقطار أمتهم.
وعنوان مقالة هذا اليوم جزء من بيت مشهور لأبي الطيب المتنبي من قصيدته التي مطلعها:
عيد بأية حال عت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
وكنت قبل ست سنوات قد نشرت قصيدة في صحيفة الجزيرة بعنوان (صدى العيد) مستهلاً لها باقتباس ذلك البيت ثم قلت:
هذا السؤال مليك الشعر سيَّده
ألقاه فالدَّهر إنشادٌ وتغريدُ
وكل ما صيغ من معسول قافية
صدى لما صاغه بدعاً وترديد
وبعد أن عبَّرت عما أراه من عظمة شعر المتنبي قلت إنه:
لم يقبل الضيم إذ لاحت بوادره
من حاكم زفَّه للحكم إخشيد
واستأسدت في ثرى مصر ثعالبها
حتى اختفت من جنى الكَرْم العناقيد
ماذا تُراه لو أنّ العمر مدَّ به
وحاضر العُرْب بالإذلال عِربيد؟
كل المواطن مصر أمر حاكمه
يمليه أعوان صهيون المناكيد
والقدس غير محتل هويّتها
وانتابها من يد الأوباش تهويد
والسادرون من الحكام ديدنهم
في كل نازلةٍ شجب وتنديد
باعوا المواطن كي تبقى مناصبهم
يحيطها من رضا الأسياد تأييد
وملتقى الرافدين المستطاب غدا
فيه لأقدام محتليه توطيد
واختتمت كل القصيدة بما ينبئ عن التخوف من الستقبل والسؤال عن كنهه:
قائلاً:
مستقبل ليس يدري كنهه فطن
في رأيه عن طرح الرأي تسديد
والعيد عاد ودامي الجرح يسأله
(عيد بأية حال عدت يا عيد؟)
في عيد رمضان من السنة الماضية كانت أمتنا قد شهدت شيئا مما أسعدها وبعث الأمل لديها. كانت قد شهدت الإطاحة بحكم بوليسي ظل كابوساً على صدور التونسيين سنوات طويلة ثقيلة الوطأة؛ جامعاً بين الفساد الإداري وكبت أنفاس ذوي التمسك بدين أمتهم وهديها، وشهدت زوال حكم ظل ينهب عناقيد كرم مصر العزيزة - وما شم -؛ جامعاً بين فساد إداري كاد يكون منقطع النظير واستخذاء أمام زعماء الكيان الصهيوني يخجل منه كل منتم إلى أمته المبتلاة بذلك الحكم وأمثاله، وشهدت إضافة إلى هذا وذاك، القضاء على حكم ظل رئيسه الذي يحار المرء في وصفه، يحكم ليبيا أربعة عقود؛ باطشاً بالمخلصين من أهلها، ومبدداً ثروة بلاده في أمور أغلبها - إن لم تكن كلها - وبالاً على أمته.
وفي عيد رمضان من السنة الماضية كانت أمتنا قد شهدت بصيص أمل في أن تتغير الأوضاع في اليمن نوعاً ما إلى ما يرجو تحققه كل مخلص لأمته ولذلك القطر العزيز من استقرار وعمران.
وفي ذلك العيد أيضا كانت أمتنا قد شهدت قيام هبة في سوريا ربما شجعت على قيامها تلك الهبات، التي قامت في عدة أقطار عربية، وكانت في بداية انطلاقتها سلمية الطابع منادية بإنهاء حكم ظلَّ أكثر من أربعة عقود متحكما بمصير الشعب السوري دون مراعاة لاختياراته المشروعة، وظلت سلمية الطابع أكثر من ستة أشهر، وحينذاك عبر الرئيس السوري وعدد من أقطاب حكومته عن الثقة بأن النظام الحاكم قوي يختلف عن الأنظمة العربية الأخرى التي أطاحت بها هبات شعبية، ومما لوحظ أنه مرَّ أكثر من عام على بدء تلك الهبة وأكثرية سكان المدينتين المهمتين، دمشق وحلب.. لم يبد منهم ما بدا من سكان المدن والقرى الأخرى.
وكنت قد كتبت عدة مقالات بينت فيها أن الوضع في سوريا مستحكم العقد! داخليا وخارجيا، ذلك أني أدركت - نتيجة تأمل تاريخ الحكم هناك- أن ذلك الحكم قد وصل إلى السلطة على يد رجل برهن على أنه داهية من دهاء السياسيين، ومن يقرأ ما كتبه عنه وزير خارجية أمريكا، جيمس بيكر، يتبين له الشيء الكثير من دهاء حافظ الأسد واضع أسس ذلك الحكم ومُرسخ بنيانه، وأدركت أن حكما أسس بنيانه ذلك الداهية ليس من الوارد في بال من هم قابضون على سدته أن يتخلوا عنه مهما كانت الظروف، وأن موقفهم الواضح هو: نبقى في الحكم وإن دُمرت سوريا، وبدا لي أن التغلب على أولئك القابضين على الحكم السوري سيكون - إن تم - باهظ الثمن، لقد ارتكب أولئك المجازر الفظيعة عندما كان الذين هبوا ضدهم يتحركون سلمياً، وكانت أبشع المجازر وبخاصة تلك المرتكبة ضد الأطفال، والهبة ما زالت سلمية الطابع.
وبعد أن اضطر الحريصون على الدفاع عن شعبهم إلى اللجوء إلى القوة لمنع تلك المجازر ركز المتنفذون في النظام على تدمير أحياء البلدان المعارضة لهم على رؤوس أهلها بمختلف الأسلحة الثقيلة، وكان أقطاب النظام واثقين من أن يقف معهم أعداء أمتنا العربية في إيران بالذات، الذين هم المتحكمون في مسيرة الأوضاع في العراق، وكان لوثوقهم بأولئك ما يبرره، ذلك أن زعماء إيران قد برهنوا على أنهم مرتبطون بزعماء الحكم في سوريا عقدياً ومصيرياً، وأنهم أساطين دهاء تمكنوا من إقناع زعماء أمريكا المتصهينين المحتلين للعراق ظلماً وعدواناً أن يفسحوا لهم المجال كي يتحكموا في مصير العراق، الذي كان قبل الاحتلال الأمريكي له موطن عروبة متدفقة، واستطاعوا - حتى الآن على الأقل - أن يتعاملوا مع الغرب بمهارة في مسألة التصنيع النووي، ومن الواضح أن المتنفذين في النظام السوري قد أدركوا أن الغرب - وفي مقدمته أمريكا - ليس راغباً في زوال ذلك النظام قبل اكتمال تدمير سوريا، ذلك أن الكيان الصهيوني لم ير في زوال النظام السوري مصلحة له، وما يهم الغرب هو ما يهم ذلك الكيان بالدرجة الأولى.
وإضافة إلى ما سبق فإن المتنفذين في النظام السوري قد أدركوا اختلاف المعارضين لهم، والأهم أنهم أدركوا - فيهم يبدو - ضعف زعماء العرب وقلة حولهم وحيلتهم؛ مقارنة بمؤيديهم من زعماء إيران. وكان من احتقار الزعيم السوري لزعماء العرب أنه قال عنهم ذات مرة بصفاقة إنهم أشباه رجال. لقد بدا لأولئك المتنفذين في حكم سوريا - في ضوء ما عرفوه في مؤتمرات القمة العربية - أن القادة العرب لم تعد لهم المكانة التي كانت لأسلافهم قبل ما يزيد على ثلاثين عاماً. وما اتضح من موقف الأمانة العامة للجامعة العربية، التي يفترض أنها تعبر عن مواقفهم مما يرتكب في سوريا منذ أكثر من عام ونصف العام يدل على أن لنظرة الزعامة السورية ما يبررها مع الأسف الشديد.
أما منظمة المؤتمر الإسلامي، أو منظمة التعاون الإسلامي كما أصبحت تسمى، فليست نتائج مؤتمرات قادتها المتكررة ببعيد عن نتائج مؤتمرات قادة دول الجامعة العربية؛ قلّة فاعلية. لقد كان قيام تلك المنظمة ردة فعل - بالدرجة الأولى - لحريق محراب المسجد الأقصى بفعل أحد الصهاينة. ومرَّت الأعوام تلو الأعوام - ومع تكرار تلك المؤتمرات - ولم يزد واقع فلسطين - على العموم - إلا تعميقاً وترسيخاً لتهويدها. وفي المؤتمر الأخير، الذي أملت انعقاده في مكة نية صادقة مخلصة كانت قضية سوريا في مقدمة ما تناوله المؤتمرون. ولعلها الأكثر إلحاحاً لدى الكثيرين من أبناء الأمة، وبخاصة العرب. وأتت نتيجة هذا التناول إدانة مؤكدة لما يرتكب على أيدي المسؤولين في السلطة السورية بالذات من انتهاكات لحقوق الإنسان، وإراقة للدماء، وتدمير للمواقع الدينية والتاريخية.
والإدانة المؤكدة للجرائم المرتكبة تنمُّ عن عدالة من أصدروها. لكن ما أكثر ما أصدرته مؤتمرات قادة أُمتنا؛ عرباً ومسلمين، من إدانات أكد على شدتها أو لم يؤكد! على إنه إلى جانب تلك الإدانة المؤكدة تقرر تعليق عضوية سورية في المنظمة الموقرة المتحدث عنها. وفيما يراه المتأمل في مسيرة الحكم الحالي في سوريا؛ تاريخاً وواقعاً، هل يظن هذا المتأمل أن زعماء سوريا يأبهون بما قررته تلك المنظمة بالنسبة لعضوية بلدهم فيها؟ لا يدري الفقير إلى ربه القدير كاتب هذه السطور، لكنه يشكو إلى الله وحده ضعف أمته وهوانها، ولا يملك إلا أن يختم مقالته بما سبق أن اقتبسه من قول المتنبي:
عيد بأيَّة حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد