دائما ما تثير سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه العديد من الأسئله، وقد أعادت سيرته التاريخية كما تم عرضها في المسلسل التلفزيوني الأخير كثيراً من أقواله وأفعاله العظيمة، ولكن هل ما شا هدناه من إنجازات غير عادية من الحقيقة الثابتة!، أم أن بعضها من نسج خيال الراوي المنحاز، أثبت التاريخ من مختلف مصادره حقيقة تلك الإنجازات والأفعال، وقد تناول شخصيته وسيرته عدد من العلماء المعاصرين من مختلف الاتجاهات مثل عباس محمود العقاد وعلي الوردي وغيرهم، وأكدوا على فطرته التي كانت تأبى التناقض والازدواجيه، وترفض الظلم الاجتماعي، كان آخرها كتاب شيق كتبه الشيعي العروبي حسن العلوي، بعنوان عمر والتشيع، أورد فيه كثيراً من الروايات التي تحكي إنجازات سيرة الخليفة الثاني، ودافع من خلالها ضد منتقديه المتطرفين.
عند ما أتحدث عن إنجازاته، أعني تلك المواقف التي قدمت في صور مبكرة حقوق الإنسان والديموقراطية، ومن أين لك هذا؟، كما قدمها بامتياز أثناء خلافته وقبيل وفاته، قال في آخر أيامه (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء)، وقال في أبلغ حكمه، (ألا إني قد سننت الإسلام سنّ البعير، يبدأ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سداسيا ثم بازلا. ألا فهل ينتظر بالبازل إلاّ النقصان؟ ألا فإن الإسلام قد بزل)، طه حسين، الفتنة الكبرى، كان يرى أن المسلمين الأوائل كافحوا الظلم والترف والتعالي في أيام الرسالة، فلما علوا في الأرض وجاءهم المال والترف أصبحوا بحاجة إلى من يكافحهم، كان يدرك أبعاداً غير مرئية في عمر الدولة، لذلك كان عند ما يرسل عماله للأمصار في حكم الناس يحصي ما يملكون، ويمنع عنهم العمل في التجارة ما داموا يعملون في خدمة الناس.
أثناء الفتوحات العظيمة، حبس عمر كبار القوم، ومنعهم من الخروج من المدينه لئلا يستغلون نفوذهم في الأمصار (إنهم يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده)، طه حسين، الفتنة الكبرى، كان لديه قدرة أخاذة وسابقة في فهم آثار التسلط واستغلال النفوذ، ألغى توزيع المال على المؤلفة قلوبهم بعد تضخم عدد المرتزقه على بيت المال، وزاد الإعطيات المجانية في عدد العاطلين عن العمل الذين يبتزون حقوق الناس وهم في بيوتهم، منع توزيع الأراضي الزراعية على المجاهدين في المناطق المفتوحة، وأمر أن يبقي سكان الأرض الأصليين والفلاحين على أراضيهم.
أبديت اهتماماً في فترة من حياتي بسيرة عمر بن الخطاب، الذي قدم فهماً تطبيقياً للإسلام، فهذا الرجل أثبت في كثير من صور حياته أنه شخصية عبقرية ازدادت لمعاناً وإنجازاً باعتناقه الدين الحنيف، لكن كثيراً ما أرقني سؤال، لماذا انحسرت الإنجازات العبقرية في الإدارة والسياسة والعدالة في شخصية عمر؟ بينما غابت تلك الشفافية الإدارية في شخصيات التاريخ السياسية بعد ذلك في تاريخ المسلمين، أين كان الخلل؟ ولماذا انقطعت تلك المفاهيم الخالدة عن أعمال غيره؟ لم تكن سيرة عمر أساطير، فقد كانت صورة ناصعة في تاريخ المسلمين، قدمتها المصادر التاريخية، وجعلت منها نبراساً وفخراً يهتدي به غير المسلمين للإسلام، لكن مع ذلك عند ما أقرأ سيرة عمر بن الخطاب في السياسة والإدارة كثيراً ما أتساءل عن سر ذلك التعظيم للرجال في تاريخ الإسلام بغض النظر عن أفعالهم وإنجازاتهم، لماذا تحولنا إلى ممجدين لكل شيء إسلامي، بغض النظر عن التفصيل في تطبيقاته أو وزنها بميزان العدالة والإنسانية التي جاء بها الدين!.
لماذا نقدس بعض فترات التاريخ الإسلامي، وإن خالفت بشكل قطعي تلك المبادئ التي عمل عمر بن الخطاب رضي الله على تحقيقها في الواقع، لماذا عادت الطبقية والاستبداد والإقطاع بعد ذلك، ألم يكن الإسلام العظيم الملهم لإنجازات عمر بن الخطاب في تحقيق العدالة في المجتمع، أم الأمر لم يخل من ذلك الكائن، “الإنسان”، ومن مشاعره، ومبادئه، وضميره، وانحيازه مهما بالغ في تمسكه بشعائر الدين أمام العباد، أو خالها عن أعين الناس.