لا يرد ذكر رمضان على ألسنتنا إلا ونقرنه بوصفٍ يدل على مكانة شهر الصوم في عقيدتنا. فهو الشهر الفضيل والكريم والعظيم والمبارك وهو شهر الخير، وفي القرآن الكريم: “شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس... الآية”.
هي إذن كلمات تصف فضله العظيم لنا نحن المسلمين، وما يكرمنا الله به من صيامه وقيامه. فهل نحن نقابل هذا الفضل العظيم بما هو أهله؟ بعض الناس - وهم ليسوا بقليل ولله الحمد - يحرصون على أداء العبادات كلها المفروضة والتطوعية، ولكنّ بعضاً آخر لا يستوعبون المعاني الروحانية والحسية التي تتجلى في هذه العبادات. فعلى الرغم من أن فريضة الصوم عن الأكل والشرب والملذات الأخرى في النهار توجه إلى التحكم في شهوة الأكل والشرب والشعور بحاجة الفقراء والمساكين وتدريب النفس على الصبر على الحرمان من المتع وتقوية الإرادة، وأن قيام الليل يوحي بالاستغناء عن لهو الليل وسهراته الممتعة إلا أن ذلك البعض يفعل العكس تماماً. وليس الأمر محصوراً في استهلاك الأكل والشرب وطول السهر، بل إنه يمتد ليحدث خللاً في أداء الأمانات والواجبات الدنيوية التي يفرض الدين أداءها على الوجه الصحيح.
ومن مظاهر هذا الخلل ضعف إنتاجية الموظف السعودي خلال شهر رمضان - فوق ما هو ملاحظ من دراسات وتقارير رسمية عن ضعف إنتاجيته في الشهور الأخرى من السنة. وقد تناولت مجلة التنمية الإدارية الصادرة من معهد الإدارة العامة في أحد أعدادها هذا الموضوع وجعلت منه قضية للعدد عنوانها (الموظفون في رمضان صائمون عن العمل)، ولخصت ذلك بعبارة (البعض يتخذه شهراً للكسل والتقاعس عن الإنتاج). وفي تناول المجلة لهذا الموضوع ما يكفي. لذلك سأهتمُ في هذا الطرح بما هو آتٍ بعد رمضان - أعني إجازة عيد الفطر. هذه الإجازه تبدأ - كما هو معلوم - في القطاع الحكومي من 25 رمضان وتنتهي في اليوم الخامس من شوال - أي لمدة عشرة أيام، وفي القطاع الخاص تبدأ غالباً من 28 رمضان وتنتهي في اليوم الخامس من شوال - أي لمدة أسبوع، وقد تزيد هذه المدد حسب موقع نهاية الأسبوع. من الناحية الدينية فإن عيد الفطر يوم واحد وهو يوم أكل وشرب تعبيراً عن فرحة الصائم بفطره - كما ورد في معناه عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
فيوم عيد الفطر بهذا المعنى هو مكافأة للصائم. أما إجازة عشرة أيام أو حتى أسبوع فهي مكافأة عن ماذا؟
الأصل في الإجازة أنها تعطى للراحة من عناء عمل ومن ثم شحن الطاقة لعمل قادم كما في الإجازة السنوية أو إجازة الفصل الدراسي. فأين هو عناء العمل الذي تستحق من أجله إجازة عشرة أيام؟ بالطبع هي ليست مكافأة عن ضعف الإنتاجية، ولا إجازة عن الكسل في شهر رمضان، ولكنها بهذا الطول إجازة غير مستحقة وإهدار للوقت لا مسوغ له.
ومما يزيد (الحمى مليلة) أو (الطين بلة) أن عدداً لا يستهان به من الموظفين يضيف إلى أيام الإجازة الرسمية يومين أو أكثر تحت أي غطاء نظامي أو بأي ذريعة.
في وقت مضى كان الاحتفال بعيد الفطر يعني التقاء الجيران ومعايدتهم وتبادل التهاني والزيارات بين الأقارب وإسعاد الأطفال ببعض الهدايا، وذلك في جو من الفرحة الحقيقية. باختصار كان العيد يشعل الرغبة في تجديد وتقوية أواصر الأخوة والقرابة والصداقة بين أفراد المجتمع. فهل هذا ما نفعله الآن؟ الإجازة الطويلة صارت فرصة للرحيل إلى خارج المدينة أو إلى خارج الوطن بقصد السياحة. فإن كان موعد استئناف الدراسة متأخراً عن موعد بدء دوام العمل الرسمي فإن من يسافر قد يسعى إلى تمديد إجازته. صرنا نفرح بالعيد من أجل الإجازة بدلاً من الفرح بالإجازة من أجل العيد.
أما الذين لا يرحلون فإنهم يتثاءبون من الملل - خصوصاً بعد الثلاثة أيام الأولى. إن عيد الفطر قد فقد معناه الاجتماعي بسبب الإجازة الطويلة وبقي له معناه السياحي! فإجازته تضاف إذن إلى حلقات سلسلة الإجازات: إجازة عيد الأضحى والإجازة السنوية والإجازات الاضطرارية وإجازات الطلاب بين الفصلين وفي الربيع التي تتحول أحياناً إلى إجازة عائلية.
هل لهذا الانسياق وراء الإجازات دلالة ما؟ هل هو ناتج عن مفهوم ثقافي يضع ثقافة العمل في مرتبة ثانوية خلف أولويات أخرى مثل المتعة الشخصية وراحة البال وانبساط العيال والمظهر الاجتماعي؟ أم هو ناتج عن استعلاء الذات التي ترى في إنتاجية العمل نوعاً من الكد لصالح الغير؟ أم هو ناتج عن الاطمئنان وعدم الخوف على الوظيفة أو من المساءلة لأن الجميع يفعل ذلك؟ وعلى الرغم من أن إجازة العيد تعطى لمناسبة عامة تحتفل بها جميع شرائح المجتمع إلا أن مدتها الرسمية مختلفة بين هذه الشرائح في الأحوال العادية. فالموظف الحكومي الذى (يشتكي) شهر رمضان من ضعف إنتاجيته يحصل على إجازة أطول من موظف القطاع الخاص الذي يحاسبه صاحب العمل على مقدار إنتاجيته!
في ختام هذا الطرح يطل سؤال ملح: ألم يحن أوان إعادة النظر في مدة هذه الإجازة؟ فتصبح ثلاثة أيام أو أربعة على الأكثر بدلاً من عشرة أيام، ويتساوى في ذلك القطاع الحكومي والقطاع الخاص، فيشعر الجميع بطعم العيد وفرحته، ويعود ما نكسبه من جراء ذلك من أيام عمل وما نوفره من نفقات لخير مجتمعنا ورقي وطننا. ولن يفوتنا شيء، فإنه لا يفصلنا عن إجازة عيد الأضحى الطويلة سوى شهرين فقط.