مؤتمر قمة التضامن الإسلامي تميز بخصوصية المكان والزمان، أطهر بقعة وأقدس زمن.. وهذا ما أراده خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، سعياً وراء ضغوطات المكان والزمان وتأثيرهما الكبير على قادة الدول الإسلامية وما يتبع ذلك من تأثير على شعوبها في كافة أرجاء العالم..
ويعتبر تنظيم هذا المؤتمر العالمي وفي وقت قياسي من الزمن وخلال فترة حشود هائلة من المسلمين في مكة المكرمة وكافة المناطق المحيطة نجاحاً كبيراً للمملكة وقدرتها التنظيمية العالية، ونحمد الله تعالى أن أتم مثل هذا التنظيم على أفضل السبل والغايات. ومن المعروف أن أي مؤتمر عالمي يحتاج إلى شهور ليس فقط من جانب التنظيم اللوجستي، ولكن من ناحية دعوة المشاركين وتنظيم جدول الأعمال وتحديد مسودة البيان الختامي.. وجميع هذه الأمور سارت بشكل طبيعي وبنتائج إيجابية والحمد لله..
ولا شك أن التحدي الكبير الذي واجه مثل هذا المؤتمر هو الاتفاق على صيغة مشتركة يُجمع عليها أعضاء منظمة التعاون الإسلامي، وهذا أمر يصعب حدوثه وبخاصة في الموضوع السوري، ولاسيما أن إيران هي طرف ذو نفوذ في الأوضاع السورية، وهي تقود دعماً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في محاولة لإبقاء نظام بشار الأسد.. ولكن في الحدود الدنيا فإن رسالة المؤتمر قد ظهرت جلياً في استنكار ما يقوم به النظام السوري من قتل وتدمير المدن السورية والشعب السوري..
وفي نظري أن المبادرة التي أطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- كمقترح لتأسيس مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية وأثنى عليها المؤتمر ودعموا تأسيسها هي بمثابة أهم المبادرات الإسلامية التي أطلقت في العصر الحديث، نظراً لأن منشأ الخلاف بين الدول الإسلامية هو مذهبي في أساسه، ولم تصل هذه الجماعات إلى صيغ متقاربة أو قواسم مشتركة تحول دون نشوء نزاعات أو حدوث اقتتال بين تلك الجماعات والشعوب..
إن تأسيس مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية يأتي امتداداً لمبادرات كبيرة طرحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال السنوات الماضية، أولها داخلية تمثلت في مبادرة الحوار الوطني بين أبناء وبنات المملكة، وتجسدت على أرض الواقع في تأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وثانيهما عالمية تمثلت في مبادرة حوار أتباع الأديان والثقافات وتجسدت في تأسيس مركز الملك عبدالله العالمي لحوار أتباع الأديان والثقافات في فيينا.. والآن تأتي هذه المبادرة على نطاق العالم الإسلامي لتأسيس مركز في مدينة الرياض عن حوار المذاهب الإسلامية..
ولا شك أن مثل هذا المركز الذي سيُعنى بحوار المذاهب مطلوب في وقتنا الحاضر، والعالم يحاول أن يعزز القواسم المشتركة بين الأديان والثقافات بدلاً من تكريس نقاط الاختلاف والتباين.. ومن المنتظر أن يعمل مثل هذا المركز على بناء وعي بأهمية قبول الاختلاف مهما اختلفنا مع هذا الاختلاف فهذه حكمة ربانية {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.. كما أن الآية الكريمة توضح أن إرادة الله هو أن يكون هناك مؤمنون به وغير مؤمنين {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، ومشيئة الله أن لا يكون جميع البشر مؤمنين به.. إن مثل هذا المركز سيعمل على تقريب وجهات النظر بين الفرق والجماعات الإسلامية من أجل الوصول إلى حقيقة الأمور والحياة كما هي في أصول ومبادئ الإسلام الحنيف..
ونحمد الله أن ألهم مليكنا عبدالله بن عبدالعزيز بهذا الوعي الكبير بقضايا الأمة الإسلامية وأصبحت هماً وهاجساً يصاحبه في كل وقت، وهذا ما جعله ينادي بتنظيم مثل هذا المؤتمر العالمي للدول الإسلامية، كما هذا ما جعله يطلق مبادراته الوطنية والإسلامية والدولية التي من شأنها أن تقرب بين الشعوب والجماعات وتبني على التوافق بدلاً من الخلاف بين الناس والشعوب..
مؤتمر مكة المكرمة الذي انبثق عنه ميثاق مكة المكرمة يعد شهادة أخرى على قيادة هذه البلاد للقضايا الإسلامية مهما صغرت أو كبرت، ومهما قربت كما في سوريا أو بعدت كما في ميانمار، فالعالم الإسلامي هو جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى.. وقد حاول الملك عبدالله بن عبدالعزيز أن يعمق هذا المفهوم لدى قادة العالم الإسلامي، ويحملهم مسؤولية شعوبهم وأمانة الواجب وتاريخية المواقف التي تمر بها الأمة الإسلامية.. وهذه أمانة من الملك عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين نقلها إلى قادة دول العالم الإسلامي.
alkarni@ksu.edu.saالمشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود