هل خلوت أخي المسلم: شيخاً أو شاباً، ذكراً أو أنثى، بسويعات تتأمل في هذه الخلوة، مع نفسك وما في جسمك من أسرار وعجائب وأجهزة تعمل بكامل الدقة والإتقان، ولا تخطئ أو يتداخل عمل مع عمل، وكيف تلك الأجهزة، ثم قارنا مع دقتها وإحكامها، وصغرها وخفاء عملها، بما هو محسوس لديك، من المخترعات الحديثة، التي تتكاثر
وتتجدد، في هذا العصر الذي يطلق عليه عصر الحضارة والمخترعات والتكنولوجيا، والتي تتزايد يوماً بعد يوم، مما ينبهر معه عقل الإنسان.
حيث جرت الأجهزة والمكائن الآلية والمصانع، التي انتشرت في بقاع الأرض، بعد توفر الكهرباء، لتؤدي للإنسان أعمالاً كبيرة شغلت ذهنه، واستولت على عقله، دقة في العمل، وتوزيع في الوظائف، وانبهار في الدور المؤدى. وقد خففت أعباء لا تحصى عن ملايين من البشر، وعطلت أعمالهم الجسمانية وقدراتهم الذهنية.
فكانت هذه الأجهزة التي اعتبرت من عجائب قدرة الله سبحانه، التي منحها للبشر، ويسر لهم معرفة كننها وأسرارها، وكيف تعمل؟ وكيف يستفيد منها، بعد أن تيسر وجودها وتمت الاستفادة منها، وقد يستعملها من لا يعرف أسرارها نتيجة التبادل والمنافسة التجارية، ولو فكرنا في بعض هذه المخترعات الحديثة وما تؤديه من دور وخدمة للمجتمع، لأدركنا مقارنة المعقول بالمحسوس: في الطباعة، فمطبعة واحدة تنتج في اليوم الواحد الشيء الكثير مما يعجز عنه عشرات الآلاف من الرجال في نسخه، وما فيه من المعلومات، مع الفارق بين الحالين، وحصادة زراعية، أو حراثة تسوي الأرض تؤدي كل منهما عشرات الأضعاف من قدرة العامل الواحد يومياً، وهكذا في شؤون الحياة كلها، وما جد أمام الإنسان ما وفقه الله إليه مما برز للإنسان وأجهد المخترعون في أفكارهم من باب التنافس وزيادة الدخل المادي يقول سبحانه: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}.. الزخرف 32.
والشاعر العربي يقول:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فأقول: وأنت تشاهد وتحس بأعمال تلك المبتكرات الحديثة التي هي من صنع الإنسان، الذي وفقه الله لذلك لتنتفع بها في حياتك اليومية، وتخدمك وتريحك بما تؤديه من أعمال متقنة فهل خلوت بنفسك في نظرة تأملية، لتتبصر في جسمك وما فيه من أسرار وعجائب، وأجهزة وأعمال مع دقة وإتقان في الصنع، وإحكام في العمل؟ لتعتبر وتؤجر بالنية الصادقة، وفق قول الله سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الذاريات 21.
وبحمد الله يحجزك إيمانك حتى لا يطيش عقلك فتصبح مادياً، كما ضاع كثير من البشر الذين لم يعيدوا ما عجزوا عن فهمه إلى قدرة الخالق سبحانه، وما يجب الاعتراف به لمن بيده ملكوت كل شيء جل وعلا، ونقر بقصورنا في التعليل والعلم لقوله سبحانه: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} البقرة 151، فلا بد من الاعتراف بقدرة الله الذي أعطاك العقل والحواس لكي تعرف فضله عليك. وأنت المؤمن بربك، الحريص على أداء شعائر دينك الإسلامي، كما جاءتك بدون تردد، حتى تزداد يقيناً، ويمتلئ قلبك إيماناً عن معرفة، وبتقوى من الله فأنت يا أخي المسلم:
لأنك لو تمعنت في الطعام الذي تأكله: لذاذته عند الأكل تذوقاً وشهية، وكيف اندفعت إليه بحاسة الجوع، لأن أجزاء الجسم هي التي طلبت هذا الأكل، وكل جزء من جسمك يحتاج إلى ما يعينه على البقاء والعمل، ثم كيف استطبته بحاسة الشعيرات والخلايا المتكاثرة في فمك، الدقيقة في عملها، وأنت لا تحس، فاللسان علاوة على كونه عضلة هيأها الله سبحانه للنطق وفضل الله به الإنسان على مخلوقات عديدة له عمل آخر لا يقل عن حاسته في التعبير والنطق، فهو حارس أمين في الفم، يتحرك ويجول في الفم عند الأكل والشرب للتفقد والحراسة المستديمة.
فهو بما منحه الله من حاسة، لا يسمح بما يمر على بوابة الجسم (الفم) أن ينفذ لداخل الجسم لأي مادة قبل فحصها جيداً، فإن كان فيها جسم صلب كالعظم أو غيره استبعده لأن من شدة محافظته وحراسته، يعلم ما فيه ضرر على الجسم، فيستبعده قبل دخوله الجسم، ثم هو في حركته الدائبة يصول ويجول: يتفقد ويدقق في كل ما دخل في الفم ليوزعه أجزاء، وطحن كل جزء بواسطة الأسنان حتى يكون مرناً ينزلق مع الحلقوم، لينحدر إلى المعدة، على دفعات تتلاءم مع المريء بعد طحنه بالأضراس، وارسال استئذان للقصبة الهوائية حتى تنغلق فهو حارس أمين ولا يمل من الحركة. لئلا ينحدر جزء ولو صغير بالرئتين فيحصل الضرر الفمي بالإنسان، وهذا من ملاطفة الله سبحانه وتعالى عن الإنسان، وإحكام خلقه، فقد خلق فسوى وقدر فهدى.
إنك لو تمعنت في الطعام الذي تأكله، وكيف تندفع إليه بحاسة الجوع، وكيف استطبته بحاسة الشعيرات والخلايا المتكاثرة في فمك، الدقيقة في عملها، وأنت لا تحس بها، وأثر لمس الطعام باليد وشمه بالأنف، في إفراز الغدد اللعابية التي تساعد على تهيئة الطعام بالترطيب أولاً، ثم استساغته في الفم، وتسهيل جريانه في الحلق والبلعوم بعد تليينه بالمضغ، ثم تهيئة المعدة بإفراز عصارتها الهاضمة، إلى دورة الطعام في الجسم، وكيف يتحلل، ويذهب كل عنصر إلى جهته المحتاجة إليه في الجسم في عملية مخبرية دقيقة محكمة، ومثل هذه الأدوية التي يصفها الطبيب للمريض، فإنها يتناولها مع الفم إلى المعدة ولا تستقر في المعدة، بل يذهب كل دواء لمكانه في الجسم: فهذا للرأس وهذا للظهر وهذا للقدم أو الساق، وهكذا أجزاء الجسم بإحكام، ولو غلط المريض، أو من يناوله الدواء أو الطبيب في الوصفة.. فما يحصل؟!
إن المريض قد يعطى بالغلط دواء ترسله الحواس التي أودعها الله في الجسم البشري فيحصل بسبب ذلك مضاعفات قد تودي بحياته، وما غلطت الأجهزة التي أودعها الله في الجسم ولكن الإنسان هو الذي غلط، فيجب ألا يتناول أي فرد شيئاً مما حرمه الله سبحانه، كالمخدرات والمسكرات والدخان والسموم الأخرى الضارة، ولكثرتها واستمرار الديمومة عليها، فقد يعجز جهاز المناعة عن التصدي لها فيهلك الإنسان كما يحصل بطاعون القرن العشرين، ولا تزال آثاره مستمرة وهو مرض (الإيدز) الذي أعجز الطب الحديث ومات في العام الملايين به لأن سببه فاحشة قوم لوط والزنا فما حرم الله شيئاً إلا لضرره.
وليس ببعيد عنا ما حصل منذ عام في حمى الخنازير وما نشر من أرقام عنها عالمياً، بملايين الموتى كلما مرت بالإنسان لعل النفوس ترعوى وتتقيد بأمر الله والحكمة التي خلق الإنسان من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ }{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } الذاريات 56 - 58 .
وما أكثر ما أودع الله في أجسامنا من عجائب وغرائب، ولم تكن جاءت عبثاً، وإنما لتعرف فتشكر، وشكرها أداء حقها لوجدها هو الله سبحانه الذي يدافع عنا في نومنا ويقظتنا، وفي صحتنا ومرضنا ويقول جل وعلا: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم 7. وفي آيات وعظات يسوقها الله للبشر.
إنك أيها الشاب وأخاطبك قبل غيرك لأنك بصلاحك، يصلح المجتمع، وتنتفع الأمة مدعوّ لهذه النظرة التأملية في نفسك، ومأمور بالتبصر في أقرب شيء إليك، لتربط قدرة الله بحقه عليك في العبادة، وليزداد في قلبك الإيمان والإحساس الذي تسلم معه الأمور لخالقك، وتحرص أن تؤدي حقه الذي أوجدك في الحياة من أجله بقوله سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} المؤمنون 116.
فخذ أسوة من شباب المسلمين الذين كان لهم مواقف، مستمدة من تشريع دين الله الحق، فهذا إياس بن معاوية، كان يتعلم مع نظرائه الشباب المبادئ الأولية عند راهب في صومعته، وكما هي عادة أصحاب المعتقدات يحبون بلبلة الأفكار بشبهاتهم فقد قال يوماً للشباب المسلم، وهم في درسهم عنده بصومعته: إن المسلمين في اعتقادهم، كما يدعون عن نبيهم، أنهم إذا دخلو الجنة فإنهم يكثرون الأكل والشرب والتنعم، ولا يبولون ولا يتغوطون، فأين تذهب فضلات أجسامهم؟ وهو يريدها شبهة فاحتار التلاميذ، ولم يجدوا جواباً، ولذا لا ننبهر بالمخترعات الحديثة فهم رجال ونحن رجال، ولهم عقول ولنا عقول: كما قال بعض علمائنا: فرفع إياس بن معاوية، يده طالباً الإجابة، فاذن له فقال مع صغر سنه ونباهته: إن الله طهر أهل الجنة عما تقول: وقد جعل أكلهم وشربهم نعيماً، ففضلات أجسامهم التي نزه الله سبحانه جنته عنها، فقد جعل المخاط والبول وغيرهما من فضلات الجسم، تجشؤاً وعرقاً، ريحه ريح المسك، كما أخبرنا بذلك رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول سبحانه في آيات، منها قوله في سورة العنكبوت: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية 20، ويقول سبحانه: {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} الواقعة 61.
فقال هذا الراهب الذي دحض شبهته التلميذ الذكي: إياس بن معاوية: أبعدوا هذا عنا فإنه شيطان من شياطين المسلمين، وإياس بن معاوية هذا، له حكايات كثيرة، عن الذكاء الذي يضرب به المثل منذ صغره، وبعد أن تولى القضاء فقد قيل له: مالك سريع الإجابة عما تسأل عنه، ولا تتحرى الجواب؟ فرفع كفه وقال لمن سأله: كم الأصابع؟ فقال خمسة، فقال له: ولماذا تعجلت في الجواب؟ فقال: لأنها واضحة، فرد عليه إن ما يلقى علي جوابه واضح كوضوح الأصابع عندك.
وأعيد الكرة عليك أيها الشاب بالتمعن وإعمال الفكر في نظرات تأملية مع أجزاء في جسمك، وكيف تؤدي عملها ومهمتها ودورها في الجسم، تستمد ذلك من أحاديث رسول الله: كحديث الذبابة، والكلب إذا ولغ في الإناء والعطاس لماذا يحمد الله عليه؟ والتثاؤب لماذا يستعاذ بالله من الشيطان، والآيات الكريمات في كتاب الله سبحانه في سورة الواقعة وغيرها لتجد فيها ما يوسع المدارك، ويربط المخلوق بالخالق والشيء المحسوس عند الناس الآن أن الأطباء يعطون المرضى أدوية: من حبوب وشراب لأمراض مخلتفة، سواء كانت قبل الأكل أو بعده، فيذهب كل دواء إلى مكانه المخصص له للعلاج فلا تتداخل مهمات هذه الأدوية، عن المهمة المخصصة له، بل لم يرد عن طبيب أن دواء ضيع طريقة لمعالجه مرض آخر.
بل إن الأطباء يحددون لواحد من الأدوية مدة معلومه، وللآخر مدة أقل أو أكثر، وكلاهما يتناوله المريض، وسبحان من قدر هذا في أجسامنا وبعناية دقيقة ونحن عنه غافلون.
والموضوع واسع، وتفاصيله يحتار فيها الإنسان ولا يسعنا إلا التسليم وشكر الله على ما أودع في أجسامنا، فقد أمرنا بقوله: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الأنبياء7، مع أننا نعجب من العمل الآلي في صنع البشر مع ما يعتريها من الأخطاء الكثيرة والخراب فتحتاج لصيانة مستمرة.