المسلمون يودّعون هذا الشهر الكريم بعد أن أدّوا ما عليهم، راجين من الله الثواب، والغفران على الزلل، متعلّقين بالأمل، أمل في أن يقبل الله صومهم وصلاتهم ودعاءهم، منطلقين من يقينهم بعفو الله وكرمه وجوده، يعلمون أنّ كرم الله ليس له حدود، وعفوه إن شاء يتجاوز المنشود، فما عند الله خير مما يظن العباد، وما لديه أجلّ شأناً وأفضل زاد.
يودّع المسلمون هذا الشهر الكريم وقد ابتهلوا إلى الله، وتضرّعوا تضرُّع الصادقين، وفاضت دموعهم من الخشوع واليقين، يقين بأنّ الله لا يخيب لعبد مطلباً، ولا يرد آملاً للخير مستجلباً، فهنيئاً لأولئك الذين أعطوا هذا الشهر حقه، فما هو سوى أيام مضت وستمضي غيرها، والرابح من غنم فيها بما يدخره لأخراه، ويستعين بها بعون الله على دنياه، فالمواسم الكبيرة ليست دائمة، وهذا موسم ربح وكسب غنيمة لمن أحسن البذل، واجتهد في شهره.
وبعد هذا الدعاء والبكاء الصادق المخلص، هل غيّر الإنسان ما في نفسه، وتحرّر مما جبلت عليه من ظلم للناس كما يقول الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فإن
تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
هذا قول قد لا يكون صحيحاً في إطلاقه، فهناك من النفوس ما كانت ظالمة وعندما توجهت إلى ربها بعد إسلامها لم تَعُد كذلك، وأضحت تقيم العدل وتنبذ الظلم والشواهد كثيرة.
كان عدد غير يسير من الصحابة رضوان الله عليهم قبل إسلامهم، يسيرون على ما وجدوا عليه آباءهم، من ظلم وقهر للعباد. وبعد أن نوّر الله قلوبهم بالإيمان، ورجوا ما عنده من الجنان، انقلبت حالهم من الشقاء إلى السعادة، وتغيّرت نفوسهم من الظلم إلى العدل، وضحوا بأنفسهم وأبنائهم وأموالهم في سبيل الله وإقامة العدل بين الناس. ولنأخذ عمر بن الخطاب مثالاً في عمله، وبساطته وتغيّر حاله، فقد أعزّ الله به الإسلام، وأعزّه بالإسلام، فأصبح عمر الجديد، رضوان الله عليه، نموذجاً للعدل، والتواضع، فكان يتحرّى العدل أينما كان ويقيمه حتى على نفسه، ولنا في مقولته على المنبر وأمام الناس (أخطأ عمر وأصابت امرأة) نموذجاً لعدله مع نفسه أمام الناس، وكذلك سيره في طرق المدينة يبحث عن المحتاجين، وعندما وجد بيتاً في حاجة، حمل لهم ما وجد من مال المسلمين، وعاد لائماً لنفسه على أن يكون أحد رعاياه محتاجاً وهو لا يعلم. وعمر رضي الله عنه قام ليحضر شيئاً فقال له أحدهم، لماذا لا تطلب منا من يحضره؟ فقال: (ذهبت وأنا عمر، وعدت وأنا عمر). وفي ذلك نموذج جديد لعمر بن الخطاب صنعه الإسلام في نفس عمر، وفي خلقه، وفي سلوكه وفي تعامله مع نفسه ومع غيره.
فهل بعد هذا الصوم والصلاة والتضرع الصادق ستتغيّر نفوسنا، وسنهذب سلوكنا، أم سنعود كما كنا بلا تغيير يذكر، وإنما موسم مر وكفى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما أظن أننا استفدنا من ذلك الموسم العظيم، والله أعلم بعباده.
إذا عادت الناس كما اعتادت نمطاً وسلوكاً معيناً جبلوا عليه، وثقافة ورثوها لا يرغبون في تغييرها، سواء لديهم حسنها وقبيحها، جليلها ورديئها, فسيبقى عالمنا الإسلامي كما هو وشعوب أخرى تتقدم، ونحن نلهث وراء مساعدات مالية هنا أو هناك، وعون تقني نعطى منه بما يشاء المعطي، فهو لا يعطي إلاّ بقدر وبأغلى الأثمان. نرجو من الله أن يوفق المسلمين ويرفع من شأنهم، ويصلح بينهم ويجعلهم رحمة لشعوبهم.