يُذكّركَ النمساويون، من العاملين في منظمات تابعة للأمم المتحدة في فيينا ونيويورك وسويسرا، بأنّ المؤرّخ اليوناني الشهير، الذي جاب سواحل البحر الأبيض المتوسط، قبل خمسة وعشرين قرناً، قال إنها منطقة تقع على خطّ الزلازل الدينية والعقائدية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية
والديموغرافية. يُباغتونك: ألم يطأ آدم، أول ما وطأ البشر الكرة الأرضية، أرض هذه المنطقة!.. من النمساويين من سمع المُقربين من الرئيس الروسي بوتين يقولون إنّ “المسألة” في المنطقة أكبر بكثير من بقاء نظام بشار الأسد أو إسقاطه، بل وأخطر من بقاء إسرائيل أو زوالها. عندما تُدهشكَ هذه المُقاربة بين بقاء نظام بشار الأسد وبقاء إسرائيل، وبين إسقاطه وزوالها، فوراً يُحيلكَ النمساويون هؤلاء إلى مقولة المؤرّخ الفرنسي الشهير، الذي يعرف المنطقة شبراً شبراً وله مؤلّفات عديدة عنها: إنّ شبح التاريخ يتعامل مع ضحاياه بعينين حجريتين، وبيدين حجريتين أيضاً. ثم يستدرجكَ النمساويون إلى أن تسأل نفسكَ، سؤالاً يتردّد، منذ أشهر، على ألسنة عشرات المراقبين والمحللين، في وسائل الإعلام الأوروبية بخاصة، ويتلخّص في: هل المنطقة في حاجة إلى عملية جراحية سريعة، بنشوب حرب عالمية ثالثة، وربما رابعة؟.. بعض هؤلاء النمساويين، الذين زاروا المنطقة، خلال الأشهر القليلة الماضية، كانوا صادقين عندما أكدوا أنهم حدّقوا في الحجارة، بالطريقة نفسها التي حدّقوا بها في وجوه أهل المنطقة، إن في إيران أو في سورية أو في لبنان أو في فلسطين أو في إسرائيل. يستهجنون استغرابكَ من العلاقة التي يربطون بها بين التحديق بالبشر والتحديق بالحجر، مُتمتمين: من قال إن الحجارة خالية، في هذه المنطقة التي أنجبت كل الأنبياء، من الأحاسيس والتقاطيع، وحتى من أحمر الشفاه. ينقلون لك التحليلات الأخيرة ـ ولمّا تهدأ صراعات الفيتو الروسي الصيني الثالث في مجلس الأمن التي توصـّل إليها ديبلوماسيون غربيون في الأمم المتحدة، وفي مراكز صناعة القرار، أوروبية وأمريكية: ألا تحتاج المنطقة، بتقاطعاتها الأخيرة وإرهاصاتها المتسارعة إلى حرب عالمية ثالثة. يستدركون: لن يكون مسرح الحرب العالمية الثالثة أمريكياً وروسياً ولا صينياً. المسرح سيكون الكرة الأرضية. أي إعادة هيكلة هذه الكرة، أو إعادة نسجها وخياطتها، من خلال عمليات جراحية نووية موضعية، لا أحد فكر أو يفكر باحتساب عدد ضحاياها، ولا احتساب حجم الدمار الذي سيعمّ أجزاء عدّة منها. يبتسم أحد النمساويين وهو يقول: الطريف أنّ ثمة من يتحدث عن عملية إصلاحية استراتيجية، هدفها “تنظيف” العالم من النتوءات والطقوس الأيديولوجية. يبسطون لكَ حقيقة َ أنهم في أوروبا وفي أمريكا ينظرون، في الظروف الدولية الراهنة، إلى مدير وكالة الاستخباراتالأمريكية الجنرال (ديفيد بترايوس)، على أنه ليس أقل شأناً من جنرالات أمريكيين أفذاذ من طراز (دوغلاس ماك آرثر) أو (دوايت أيزنهاور) أو (جورج مارشال). يعتقد الجنرال (ديفيد بترايوس) أنّ ظروف الحرب العالمية الثالثة، التي تـُعيد تنظيم العلاقات والمعادلات بين الشعوب، لضمان استمرار البشرية، أصبحت متوافرة، وبإلحاح شديد. و(بترايوس) هو من الجنرالات الأمريكيين، الذين دقـّوا ناقوس الخطر، قبل سنوات، من أنّ إسرائيل تمارس سياسات تنعكس أضراراً فادحة على الأمن القومي الأمريكي. طبعاً، الحرب العالمية الثالثة لن تكون بواسطة الخيول والعربات أو الثيران، مع أنّ (بترايوس) توقف طويلاً، في دراسة له، عند ظاهرة فذّة في التاريخ، وهي ظهور أفراد أمثال (جنكيز خان) و( أتيلاّ) و(بونابرت)، خاضوا حروباً كونية، بالخيول والثيران. يُراهن الأمريكيون على مبعوث من الجحيم، لأنّ كلّ التقنيات الخيالية الفائقة التطوُّر، التي لا يعرفها غير أفراد محدودين في مراكز الأبحاث العسكرية الأمريكية، لخوض حرب عالمية ثالثة وعاشرة، قد أصبحت بين أيدي الجنرالات، فيما يُراهن آخرون على أيديولوجياتهم العابرة للأوهام. ينفي الأمريكيون أن يكونوا مسؤولين، مباشرة، عن المنحى العقائدي الذي يأخذه الصراع في العالم العربي، امتداداً إلى العالم الإسلامي. قال أحدهم إنّ معظم مجتمعات المنطقة هي التي آثرت البقاء داخل تلك الحالة الشديدة الالتباس، بين ما هو إلهي وما هو تاريخي. أمريكي آخر يجد تفسيراً سوسيولوجياً للمسألة. فالوهن الذي تعانيه إيران، مثلاً، يجعلها تبحث عن ذلك النوع من “الخلاص”، أو عن ذلك النوع من “الانتظار” المهدويين. ينطبق الأمر كذلك على إسرائيل، التي تُكابد غربة في المكان ورعباً في الزمان. في إيران وفي إسرائيل أيضاً، الكلّ يستعيد ويستعرض نصوصاً دينية، حتى عندما يتحدث عن نقص المناعة، أو عن المفاعلات النووية. الأحداث في المنطقة تسير، بالطبع، نحو الانفجار حتماً. لكن أحداً لا يعرف متى وكيف يبدأ الانفجار، وإن كانت الاحتمالات واضحة وكثيرة وساخنة. حتى الآن كل شيء في حالة تدهور نحو الغرق. الضوابط الداخلية والخارجية، إما أنها واهية أو غير موجودة أصلاً. ليقول أحدهم في أروقة الأمم المتحدة بعد التصويت بالفيتو الروسي الصيني: إنّ الأزمة في سورية ليست أزمة سورية إطلاقاً، أو أنها لم تعد سورية. إنها أزمة الجميع، والجميع يـُوقد النار، ويُفجّر الدماء، ويطلق الصواريخ في كل الاتجاهات. هل الولايات المتحدة .. بريئة ؟. طبعاً، لا. لكن الأمريكيين لم يتعرّفوا على التاريخ إلاّ في زمن متأخر جداً. تكمن أهمية أهل المنطقة، يقول أمريكيون في الأمم المتحدة، في أنّ التاريخ وُلدَ عندهم، وأبا البشر آدم هبط فوق أرضهم. يتساءل أمريكي بارز، مازحاً: هل كان أهل أمريكا الأولون، الهنود الحمر، أكثر فطنة، لأنهم لم يمنحوا ابنيْ آدم: قابيل وهابيل، تأشيرة دخول إلى أمريكا.
Zuhdi.alfateh@gmail.com