صدرت - مؤخراً - مقالتان تتعرضان بشيء من النقد الموجه لمطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل؛ إحداهما في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 11-7-2012م، والأخرى في جريدة الجزيرة بتاريخ 9-9-1433هـ.
ورغم سروري واغتباطي وإعجابي الشديد بحرية الكلمة التي يتمتع بها الإعلام السعودي في بلادنا الحبيبة، ومع احترامي العظيم وتقديري الكبير للصحيفتين الموقرتين والعاملين فيهما وكاتبي المقالتين، إلا أنني أرى أن للقارئ العزيز حقاً في التعرف على وجهة النظر التي تمثل هذه المطابع.
ولعلي أستهل حديثي بإعطاء نبذة تاريخية مختصرة عن هذه المطابع، فقد كانت بداياتها مع بداية المكتب الإقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين - سابقاً - سنة 1393هـ، الذي كان يرأسه سعادة الأستاذ الفاضل عبدالله بن محمد الغانم - يرحمه الله-، ثم حققت قفزة كبيرة عندما تبنت نظام الحاسوب في طباعة برايل لتكون بذلك أول مطبعة تستخدم هذا النظام على مستوى منطقة الشرق الأوسط وثالث مطبعة على مستوى العالم، وفي سنة 1412هـ تشرفت بحمل صفة خادم الحرمين الشريفين، وبعد ذلك صدر قرار مجلس الوزراء الموقر رقم 177 وتاريخ 20-11-1416هـ القاضي بسعودة المكتب الإقليمي وتوحيد نشاطاته مع نشاطات الأمانة العامة للتعليم الخاص بوزارة المعارف، كما كانت تسمى آنذاك.
وكانت هذه المطابع عندما آلت ملكيتها إلى وزارة المعارف قد توقفت تماماً عن العمل، وذلك بسبب انتهاء العمر الافتراضي لأجهزتها ونفاد كميات الورق التي كانت تعتمد عليها في طباعة برايل، ويرجع السبب في ذلك إلى الصعوبات المالية والإدارية التي عانى منها المكتب المذكور، وكان أبرز نشاطات هذه المطابع طباعة القرآن الكريم بطريقة برايل.
وإدراكاً من الوزارة لأهمية هذا الموضوع، فقد سارعت إلى تطوير هذه المطابع وتحديثها وتزويدها بأحدث المعدات والتجهيزات والبرامج الحاسوبية، بل إن صاحب المعالي وزير التربية والتعليم الأسبق الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد - يحفظه الله - قد قام بعرض موضوع هذه المطابع على مقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، الذي تفضل مشكوراً بتقديم دعم مالي سخي ساهم في سرعة تطوير وتحديث هذه المطابع، ثم واصلت وزارة التربية والتعليم اهتمامها بهذه المنشأة مستندة في ذلك على اعتبارات عدة يأتي في مقدمتها:
أولاً: إن هذه المطابع تطبع بطريقة برايل أشرف وأعظم وآخر الرسالات السماوية، المتمثلة في القرآن الكريم، الذي نزله الحق - تبارك وتعالى - على نبيه الكريم، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثانياً: إن هذه المطابع تتشرف بوجودها في أقدس بقاع الأرض، حيث تضم المملكة العربية السعودية - يرعاها الله - قبلة المسلمين، ومهبط الوحي، كما أنها تتمتع بقيادة حكيمة عرفت بحبها ودعمها لنشر تعاليم عقيدتنا السمحاء، الأمر الذي يشيع بين المكفوفين المسلمين في جميع أنحاء العالم الراحة والطمأنينة والمصداقية والثقة بهذه المطابع.
ثالثاً: إن هذه المطابع تحمل الصفة الكريمة، وهي «خادم الحرمين الشريفين» التي أصبح يتشرف بحملها قادة بلادنا، ورواد مسيرتنا، وبناة نهضتنا الحديثة، وما هذه المطابع التي تشرُف بحمل صفتهم الكريمة، ويدعمونها ويهتمون بها - يرعاهم الله - إلا إحدى العلامات المضيئة على طريق الرعاية الفائقة التي تحظى بها الفئات الخاصة بوجه عام، وفئة ذوي الإعاقة البصرية بوجه خاص.
رابعاً: إن إنتاج هذه المطابع من القرآن الكريم ومن عيون الكتب الإسلامية بطريقة برايل هو خدمة لفئة المكفوفين التي نعتز بها، وقد عرفت عبر التاريخ بحبها وشغفها بالقراءة والكتابة والبحث والإبداع.
ونحن منسوبي هذه المطابع لا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله العلي القدير أن يحفظ لنا قائد مسيرتنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وأن يبقيهما ذخراً للوطن والمواطنين ونصرة الدين.
وفيما يخص المقالتين المذكورتين، فأقل ما يمكن أن يقال عنهما إن محتواهما يفتقر إلى الدقة والموضوعية، فمقالة جريدة الشرق الأوسط التي كتبتها الأستاذة الفاضلة أمل باقازي، التي قد أخطأت حتى في أبسط أساسيات المعلومة، وهي اسم مدير المطابع الأستاذ أنور بن حسين النصار، الذي ورد في المقالة خطأ على أنه (أنور الخطار)، فقد طالعتنا بالشيء الأهم، وهو الوقوع في بعض الأخطاء أو المغالطات التي لا بد من إيضاح أهمها:
1 - ورد في المقالة المذكورة ما نصه: «يأتي ذلك في وقت أكدت فيه جمعية إبصار الخيرية للتأهيل وخدمة الإعاقة البصرية، صعوبتها منذ فترة طويلة في توفير مصاحف برايل للراغبين من المعاقين والمعاقات بصرياً، معتبرة أن ذلك يمثل تحديا في ظل عدم تجاوب الجهات المعنية بطباعة مصحف برايل في السعودية».
وفي الوقت الذي نعترف ونقر فيه بوجود تقصير كبير من قبل المتعهد الذي تعاقدت معه الوزارة بغرض توصيل المصاحف والكتب الدينية والثقافية المطبوعة بطريقة برايل إلى المستفيدين منها داخل المملكة وخارجها، وهو أمر لا نملك إزاءه إلا أن نتخذ الإجراءات النظامية بحق هذا المتعهد، ونقدم أسفنا البالغ، واعتذارنا الشديد لكافة المكفوفين والمكفوفات الذين تأثروا سلباً نتيجة لهذا التقصير غير المقصود، كما نؤكد على أن المطابع تعمل ليل نهار من أجل توفير مصاحف برايل وأمهات الكتب الدينية والثقافية وتوزيعها على المكفوفين والمكفوفات في جميع أنحاء العالم مجاناً، وما كان هذا ليحدث لولا فضل الله - سبحانه وتعالى - ثم الدعم الكبير الذي تحظى به هذه المطابع من لدن كافة المسئولين بوزارة التربية والتعليم، وعلى رأسهم سمو الوزير صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود.
2 - ورد في المقالة على لسان مدير المطابع ما نصه: «نحن جهة حكومية تتبع وزارة التربية والتعليم، وهي الوحيدة المخولة بذلك في المملكة».
والجملة الأولى في هذا الاقتباس صحيحة، أما الجملة الثانية فهي ليست صحيحة من وجهين؛ الأول أنها ليست ضمن حديث سعادة مدير المطابع، وإنما تمت نسبتها إليه من قبل الكاتبة كما أكد ذلك بنفسه، أما الثاني فهو أن وزارة التربية والتعليم لا تدعي أنها هي الجهة الوحيدة المخولة بطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل، بل إن الوزارة قد تحملت مسؤولية طباعة القرآن الكريم بطريقة برايل عندما لم توفق الجهات الأخرى المعنية بنيل شرف القيام بهذا الواجب العظيم.
وقد بادرت وزارة التربية والتعليم في وقت مبكر بمخاطبة وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف بطلب أن يتولى مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف مهمة طباعة القرآن الكريم بطريقة برايل، وأذكر أنني وبعض الزملاء قد تشرفنا بمقابلة معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف الشيخ صالح آل الشيخ لمناقشة هذا الموضوع، وقد تمخض عن ذلك بعض الاهتمام، إلا أن شيئاً من التنفيذ لم يحدث.
3 - ذكر الزميل الأستاذ محمد توفيق بلو، أمين عام جمعية إبصار الخيرية ما نصه: «وتم الرجوع بعد ذلك إلى المجمع الذي أحالنا بدوره إلى وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف بالرياض، ومن ثم تمت الإحالة إلى قسم المصاحف، الذي أكد رئيسه بعد عدة اتصالات إنه تم منعهم من طباعة مصحف برايل».
وهذا أمر يثير الاستغراب والتعجب، فمن الذي يمنع هذه الوزارة من القيام بواجبها تجاه شريحة مهمة من أبناء هذا المجتمع، أليست هي الجهة التي أناطت بها الدولة مهمة القيام بكل ما من شأنه العمل على خدمة كتاب الله وسنة رسوله؟!
4 - أشار الأستاذ الجليل والإعلامي البارز الأستاذ حمد بن عبدالله القاضي في مقالته بجريدة الجزيرة إلى ما نصه: «أتساءل: لماذا لم تتواصل إدارة التربية الخاصة التطوعية مع جمعية إبصار التي هي مظلة للمكفوفين بالمملكة».
وهنا ينبغي تصحيح ما يلي:
(أ) أن الإدارة العامة للتربية الخاصة ليست جهة تطوعية، وإنما هي جهة حكومية تتبع لوزارة التربية والتعليم.
(ب) إن جمعية إبصار ليست هي مظلة المكفوفين في المملكة، بل هي معنية بتقديم الخدمات للمكفوفين والمكفوفات في منطقة مكة المكرمة، حيث يوجد جمعيات أخرى للمكفوفين في المملكة مثل: جمعية المكفوفين الخيرية بمنطقة الرياض، وجمعية البصيرة بمنطقة القصيم، وبهذا الصدد أود أن أشير إلى أمرين مهمين، الأول: أننا نحن المكفوفين نتمنى أن تتوحد هذه الجمعيات تحت مظلة جمعية واحدة للمكفوفين يكون لها فروع في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، إذ إن الوضع الراهن لا يخدم المكفوفين بشكل جيد، فهناك الكثير من مناطق ومحافظات المملكة التي لا تستطيع أن تنشئ جمعيات مستقلة لخدمة المكفوفين.
أما الأمر الثاني، فهو أن جمعية إبصار نفسها لم تستطع حتى الآن القيام بواجبها في تقديم الخدمات المناسبة للمكفوفين في تلك المنطقة، حيث يشتكي زملاؤنا المكفوفون من عدم قدرة الجمعية على توفير الخدمات التي يحتاجونها كما ظهر ذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأعتقد أن الخلل يعود إلى عدم تمثيل المكفوفين والمكفوفات في مجلس إدارة هذه الجمعية، فذوو الإعاقة البصرية - كما يعلم الجميع - قادرون على المشاركة الفاعلة في صنع القرارات التي تتعلق بمصائرهم.
كما حملت مقالة سعادته عنواناً يتضمن ما نصه: «مكفوفون محرومون من قراءة كتاب الله».
ومع التسليم الكامل بأهمية وحتمية طباعة القرآن الكريم بطريقة برايل، وحق المكفوفين والمكفوفات في الحصول على هذا المصحف، واليقين التام بالخصائص والمزايا التي يتميز بها نظام برايل، بل يتفرد بها على سائر وسائط القراءة الأخرى التي يستخدمها المكفوفون، والقناعة التامة بوجود بعض المكفوفين داخل المملكة وخارجها الذين ما زالوا في حاجة إلى المصحف المطبوع بطريقة برايل، وهي أبرز المسلمات والمنطلقات التي تقوم على أساسها هذه المطابع، إلا أنني أرى أن في هذا العنوان على إطلاقه مبالغة قد تكون تجاوزت مستوى الإثارة الإعلامية إلى حد المغالطة العلمية والمفارقة التاريخية، فالدراسات العلمية تؤكد أن هناك أعداداً كبيرة من ذوي الإعاقة البصرية لا يجيدون طريقة برايل، أو أنهم يفضلون وسائط أخرى للقراءة، فهل نقول عن هؤلاء إنهم محرومون من قراءة كتاب الله؟! ثم ماذا عن ذوي الإعاقة البصرية عبر التاريخ الذين ضربوا بسهم وافر في كافة المجالات وخاصة في مجال تعلم القرآن الكريم وتعليمه قبل نظام برايل، إذ إن من المعلوم أن هذا النظام لم يظهر إلى حيز الوجود إلا سنة 1829م، ولم يستخدم بشكل فعلي في العالم إلا مع بداية القرن العشرين الميلادي، أما في المملكة فلم يتم استخدامه إلا بعد منتصف القرن العشرين الميلادي، بل إن الرعيل الأول من المكفوفين في هذه البلاد - رحم الله الأموات منهم وأمد في أعمار الأحياء - لم يتعلموا طريقة برايل، ومع ذلك برزوا في مجال العلم الشرعي، بل تفوقوا على كثير من المبصرين في هذا المجال.
أما عتب المحب فيتمثل فيما يلي:
1- إنني أعتب كثيراً على الأستاذ الفاضل، والمعلم القدير، والصحفي الخبير، والإعلامي البارز، الأستاذ/ حمد بن عبدالله القاضي الذي أكن له كل مشاعر المحبة والمودة والإعجاب، وأحمل له كل معاني التقدير والاعتزاز والاحترام، ومكمن العتب أنه لم يكلف نفسه الاتصال بمطابع خادم الحرمين الشريفين أو زيارتها للتحقق من صحة المعلومات التي نشرت في مقالة جريدة الشرق الأوسط، فهو يعرف قبل غيره أن للحقيقة عدة جوانب، وللمعلومة جملة مصادر، فما كان ينبغي أن يعتمد على مصدر واحد، وفي كل الأحوال تظل أيها الأستاذ صرحاً شامخاً في سماء إعلامنا، ورمزاً بارزاً بين أدبائنا، وقدوة حسنة للشباب في بلادنا.
2- إنني أعتب كثيراً كذلك على الزميلين العزيزين الأستاذ محمد توفيق بلو والأستاذ أحمد أبو حسان، فقد أشارا إلى أنهما تواصلا مع الإدارة العامة للتربية الخاصة كثيراً، ولم تستجب لطلباتهما، وهنا أتساءل: أليست أيها الأخوان العزيزان هواتفنا المحمولة لديكما، وألسنا نتواصل باستمرار حول كثير من الموضوعات التي تهم ذوي الإعاقة البصرية، فلماذا لم تكلفا نفسيكما بالاتصال بنا في المطابع بشأن موضوع مهم كهذا؟! فسجلاتنا تشير إلى عدم وجود أي مكاتبات أو مكالمات هاتفية بشأن هذا الموضوع.
وفي الختام أدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ بلادنا، وأن يحفظ عليها أمنها واستقرارها، وأن يحفظ لها قيادتها الحكيمة كي تواصل مسيرة الخير والعطاء والنماء.
د. ناصر بن علي الموسى - المشرف العام على مطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل