كان الناصري محمد حسنين هيكل، وكذلك البعثي عبدالرحمن مُنيف يعتبران القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت هي عواصم (المركز) والإشعاع في التحضر والثقافة العربية المعاصرة، وما سواها دول (الأطراف) والتلقي. أما عواصم دول الخليج، أو دول الصحراء كما يسمونها أحياناً، فهي حسب وصف عبدالرحمن منيف ليست سوى (مدن ملح) سيعصف بها - كما يوحي في رواياته - الطوفان القادم من الشمال لا محالة، غير أن التجارب التي أمامنا أثبتت أن عواصم عرب الشمال في منظومة التنمية والتحضر هي عواصم (تابعة) لعواصم دول الخليج العربي؛ فقد تفوقت على تلك العواصم النائمة في أحضان التاريخ (تنموياً) في كل شيء، كما هو الواقع الذي نتعايش معه الآن.
بغداد أصبحت سياسياً وثقافياً تنتمي إلى الثقافة الفارسية أكثر من انتمائها إلى السياسة والثقافة العربية التي كان يبشر بها هؤلاء. بيروت مجرد جعجعة طوائف وليس ثمة طحناً، يسعى بها هي الأخرى (حزب الله) لتصبح كوكباً صغيراً هامشياً لا قيمة له يدور في الفلك الفارسي، ويُصفق أهلها، ومن وراءهم فلول المهزومين من بني يعرب، للولي الفقيه الذي حلَّ في ديارهم ليقودهم كي يحرر فلسطين ويهزم الصهاينة نيابة عنهم. دمشق تحولت إلى مذاهب وطوائف وإثنيات تتقاتل بشراسة لم يعرف لها العالم مثيلاً، فيهرب شعبها إلى دول الجوار، وإلى (لواء الإسكندرونة) الذي كان عرب الشمال يعتبرونه جزءاً سليباً من الوطن العربي الكبير فإذا هو يتحول إلى ملجأ يقيهم قذائف دبابات حماة الديار، تلك الدبابات التي لا تقذف بحممها حينما تقف عند الحدود إلا إذا وجهت فوهات مدافعها إلى الخلف كما علق أحدهم. أما القاهرة فقد سقط من كان يُبشر بهم هيكل، العسكر ومعهم الناصريون، وجاء ملالي أهل السنة ليرثوهم ويُقدمون (خطيبهم) المفوه ليجلد المصريين في الصباح بخطبة عصماء، وفي المساء بخطبة عصماء، مُبشراً بأن الخير قادم، والأمن قادم، والقضاء على البطالة والجوع والعوز قادم أيضاً، و(دولة الخلافة) هي الأخرى آتية لا ريب فيها، والنصر على إسرائيل قاب قوسين أو أدنى ، وليس عليهم إلا الصبر (هُنيهة) من الزمن والله يُحب الصابرين.
إنها الحقيقة التي أصبحت كالشمس في رابعة النهار؛ (دول المركز) التي كانوا يتحدثون عنها اتضح أنها (حدوتة هيكلية)؛ إما أنظمة قمعية دموية طائفية، تزرع الأرض بالمقابر والأحقاد والكراهية، أو أنظمة مُهلهلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يعشش فيها الفساد والمحسوبيات وكل أمراض العصر؛ أما الأدب والثقافة التي عنها يتحدثون فليس ثمة إلا غُثاء كغثاء السيل، وفقاعات لا تعدو أن تتجاوز السطح؛ مجرد كتب ومنشورات تبحث عمّن يشتريها في أسواق يبحث فيها الإنسان الجائع عن رغيف خبز وليس عن كتاب؛ فماذا بقي لهيكل أن يقول وهو يرى توقعاته وتقسيماته وقد جرفتها فيضانات العولمة وكأنها أعجاز نخل ٍ خاوية؛ هيكل الذي ينتمي لحقبة عبدالناصر، حيث ألغى العسكر فيها كل ما بناه المصريون من منجزات؛ كان أوجها في مصر الملكية وليس في مصر الجمهورية.
هذا هو الواقع - أيها السادة - وهذا هو ما تنقله لنا الفضائيات ونحن في عواصمنا (الخليجية) التي كانت - كما تقولون - مجرد أطراف، نرفل في نعيمها بالاستقرار والأمن والرخاء. ويتسابق إلى شد الرحال إليها عربكم حتى ينالهم من خيرها ما يواجهون به جفاف أرضكم وجدبها وتخلفها. أعرف أن مواجهة الحقيقة صعبة، والاعتراف بها أصعب، غير أن اعترافكم بها من عدمه لن يُغير من الواقع شيئاً.
إلى اللقاء..