|
قراءة - د. عمر حسين الموجان السعدي:
رغبة مني في التعليق على مسلسل «عمر» الذي يُعرض حالياً في إحدى القنوات الفضائية، ومن واقع دراستي على مدى سنوات طويلة لكثير من جوانب شخصية وسيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه أرضاه - أود فيما يلي تقديم قراءة نقدية حول هذا المسلسل وأعرضها على القراء الكرام لعلها تبين شيئاً من المفاهيم التي تم تقديمها على غير ما هي عليه في هذا المسلسل.
الوقفة الأولى: الخلفاء الراشدون هم قدوة للأمة الإسلامية
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخلفاء الراشدين: «عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ». وقال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»، فالخلفاء الأربعة هم مصدر من مصادر التشريع الإسلامي لأن سنتهم سنَّة متبعة فهم أكثر الناس صحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم من قاموا بنقل الدِّين للأمة فجمعوا لنا القرآن ونقلوا لنا السنة النبوية وطبقوها في حياتهم خير تطبيق، فإذا تم تمثيل أي منهم ونسب إليهم قول أو عمل لم يصدر عنهم وأخذ به الناس تأسياً واتباعاً فإن الإثم بلا شك على من نسب إليهم ذلك القول أو العمل، وكان في ذلك تشويه وكذب عليهم فمن يطيق أن يتحمل هذه المسؤولية العظيمة، ومن قام بتمثيل هؤلاء الصحابة الأجلاء هم من الممثلين الذين مثلوا أدواراً مختلفة حسب القصة لكل فيلم أو مسلسل قاموا به في تاريخهم الفني، ومشاهدتك للممثل وهو يقوم بدور الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ثم بعد ذلك تراه في مشهد آخر يمثل شخصية أخرى ففي ذلك إساءة للصحابي الذي مثل دوره, كما أن صور هؤلاء الممثلين ستبقى في أذهان الجيل القادم من المسلمين على أنهم سادات الصحابة ويختفي ذلك الجلال والجمال الذي كانوا يتصورونه في خيالهم للصحابة الأجلاء وهذا في حد ذاته انتقاص من قدرهم وانتقاص لمكانتهم؛ ولذلك نجد القرآن الكريم ضرب الأمثال وأورد القصص وكذلك السنة النبوية المطهرة وترك المجال فسيحاً للقارئ والسامع أن يطلق خياله في هذه النصوص وهي المعجزة الخالدة، كما أن عرض مثل هذه المسلسلات المقصود الأسمى منها عرض القيم الإسلامية الشريفة وغرسها في نفوس الأجيال خاصة أن عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلافة الراشدة هو تاريخ الإسلام الذهبي وقد اختفى التركيز على هذه القيم الأصيلة وأصبح المسلسل يهدف إلى الإمتاع والتسلية والدراما، وهذا ليس محله في مادة الإسلام الأولى.
الوقفة الثانية: إغفال النبي- صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الصديق
جاءت البطولة في هذا المسلسل لعمر - رضي الله عنه - وجعل دور النبي - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة ومشكاة الهداية دورا هامشيا وكذلك دور أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي كان يوماً من الأيام يمثل الإسلام لكونه أول من آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان عمر - رضي الله عنه - يحذر من يفضله على أبي بكر الصديق ويقول: «من فضّلني على أبي بكر فحدوه حد المفترين». فهل يقبل هذا التجاهل الظاهر، إذا كان عمر - رضي الله عنه - جنّد حياته في خدمة واتباع ومتابعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد وفاته وكان كالسيف بين يديه إلا أن يغمده - صلى الله عليه وسلم - وكان طائعاً متبعاً لأبي بكر الصديق، ففي هذه البطولة إساءة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وفي الإساءة لرموز الإسلام إساءة لأتباعه من المسلمين.
كما أن هذا المسلسل تحدث عن تاريخ الإسلام ولم يتحدث عن عمر بشكل خاص في حين أن السيرة العمرية لا يمكن أن يغطيها مسلسل بهذه الكيفية، لأن الجانب الفقهي أو القيادة العسكرية أو التنظيم القضائي تظل أكبر من أن تعرض بهذا العمل، وهي جميعها جوانب من جوانب شخصية عمر فكان هنالك اختزال للشخصية في عرض المسلسل باسم عمر وهو يتحدث عن تاريخ الإسلام، وكان هنالك تقصير في العرض فقد جاء المسلسل باسم عمر وهو عمر بن الخطاب الذي ملأ الدنيا ولم تفرد له المساحة المناسبة فقد عرض مع مسلسلات رمضانية غايتها الترفيه والتسلية.
الوقفة الثالثة: الدراسة التاريخية بها أخطاء والحبكة الدرامية غير موثقة
هنالك خلل واضح في الدراسة التاريخية لهذه الفترة وإن كنت لم اطلع على الدراسة والنصوص التي ذكر أنه تم الاعتماد عليها، إلا أن الذي شاهدته من أحداث جاءت في هذا المسلسل منها ما هو غير حقيقي تطلبته الحبكة الدرامية فانعكست بمفاهيم وآثار سلبية ومكذوبة نسبت لعمر - رضي الله عنه - والصحابة الكرام وتاريخ الإسلام. فعلى سبيل المثال ذكر أن عمر كان يحضر دار الندوة ولا أعلم المصدر الذي استند إليه، وجاء أن عمر أخذ بيد عبد الله بن مسعود حينما ضربه أبو جهل وقال له «والله إنك لخير الرجلين» ولا أعلم ماهو المصدر لهذه الرواية، وذكر أن أبا جهل عمرو بن هشام هو خال عمر بن الخطاب والحقيقة أن أمه حنتمة بنت هاشم وليست بنت هشام فليس أبو جهل خاله، وجاء أن عمر كان يمسك السيف بيده اليسرى وعمر - رضي الله عنه - (أعسر أيسر) أي أنه يعمل بيديه اليمنى واليسرى بشكل متساو للتوازن الذي اكتمل في شخصيته وهو يحب التيامن في كل شيء اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاءت أحداث كثيرة هي محل النقد والتصويب لا يتسع المقام لعرضها وهذا يدل بوضوح على أن هذا المسلسل لم يتم دراسة نصوصه وتدقيقها وذلك لضعف الدارسة التاريخية فيما تم عرضه، فهنالك روايات ضعيفة وغير صحيحة أو غيرها ارجح منها وقد تم الاعتماد على روايات شائعة كثير منها لم تثبت.
فلم تتعرض شخصية في تاريخ الإسلام للهجوم والدس والاتهام وتلفيق الروايات مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فبدلاً من أن ننقي التاريخ العمري الطاهر ونظهر هذا الصفاء المضيء نكون نحن من يسيء لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه في خندق واحد، ويعرض من قام بتمثيل دور عمر بن الخطاب بهذا الضعف وهذه الشخصية الهزيلة التي لا نقبلها لأفراد المسلمين، وقد وقفت على دراسات عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - من قبل بعض المستشرقين حفظت له مكانته وقدرته حق قدره ولم تنزل به إلى هذا المنزلق، بل إن الكنيسة تحتج في مرات عديدة حينما يتم الإساءة إلى رموز في الديانة المسيحية والمسلمون يخربون تاريخهم بأيديهم فاعتبروا يا أولي الأبصار.
الوقفة الرابعة: ما تم عرضه يخالف حقيقة الفاروق - رضي الله عنه -
إن من السمات التي تميز بها عمر - رضي الله عنه وأرضاه - الهيبة التي شهد له بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بها أبو بكر الصديق وكل الصحابة فجميع من رآه هابه حتى الشيطان فقد هاب أن يسلك طريقاً سلكه عمر بن الخطاب، هذه الهيبة مصدرها إيمانه الراسخ بالله - عز وجل - وتوازنه العقلي في التمييز بين الحق والباطل إضافة إلى أنها صفة أوجدها الله - عز وجل - في شخصيته وشكله، أما من قام بتمثيل دوره فقد أساء إلى هذه الشخصية وأضعف تلك الهيبة الراسخة في الأذهان فمن مثل دوره ليس له من صفات الهيبة لا في الشكل ولا في الأداء ولا في الصوت وقد أساء إلى عمر - رضي الله عنه - إساءة بالغة.
لقد أغفل هذا المسلسل وللأسف الشديد أهم الميزات في شخصيات الصحابة بشكل عام وفي شخصية الفاروق - رضي الله عنه وأرضاه - بشكل خاص وهو إغفال لا يغتفر ولا يقبل، فإن أهم ميزات عمر - رضي الله عنه وأرضاه - المنهج العقلي المعتدل الذي جعل الانسجام الكامل بين الدين والدنيا بما يتفق عليه كل الناس، وقد أغفلت كامل الأبعاد لشخصية الفاروق - رضي الله عنه - فلم يبرز الجانب الأدبي واللغوي ولا الجانب الفقهي وهو إمام في هذا الميدان، ولا الجانب الاقتصادي ولا جانب الحكم والبراعة في إدارة شؤون الدولة ولا الجانب الإداري المتميز ولا الجانب القضائي أو القيادة الحربية، بل إن في هذه الشخصية العمرية من الرحمة والتواضع والمحبة للناس والدعابة والعبادة والزهد واللين والتسامح والذكاء وصفاء النفس كل هذه الصفات وغيرها كثير غابت في هذا المسلسل، فماذا رجونا من هذا الإنتاج الضخم والمكلف إذا لم تعرض صورة حقيقية وواضحة ومنصفة بل إنها إلى الانتقاص أقرب.
الوقفة الخامسة: المواكبة المعاصرة تتطلب الأخذ بأصول التشريع الإسلامي
قد يكون هدف إنتاج هذا العمل عرض صورة عن عصر الإسلام الذهبي وذلك حتى يتم صد الهجوم على الإسلام وإيضاح الصورة الحقيقية الناصعة للإسلام في أزهى عصوره وتكون دعوة للإسلام، وهو مقصد نبيل ومحمود، ولكني أجزم أن التوفيق لم يحالف أصحاب هذا الاتجاه في هذا المسلسل، وذلك من عدة جوانب فإن عرض هذه الحقبة التاريخية مع القصور الواضح في اختزال الروايات والأحداث وتغيير الروايات والعبارات بما يتوافق مع الحبكة الدرامية والسيناريو والحوار أضر بهذا المسلسل ضرراً بالغاً، وقد يؤدي ذلك إلى الفتنة والفرقة بين طوائف الإسلام التي تختلف مرجعياتها من حيث التأصيل والروايات التاريخية والمنهج في دراسة الأحداث والآثار، وقد نفاجأ في مقابل ذلك بمسلسلات مضادة تختلف في مصداقيتها وتوثيقها التاريخي ونحن أمام إعلام وفضائيات مفتوحة تعرض الغث والسمين ونكون بتجسيد شخصيات الصحابة المطلق الذي جاء في هذا المسلسل كسرنا الحاجز الذي كان يصون شخصيات الصحابة، وقد يؤدي الأمر وللأسف الشديد إلى تمثيلهم بشكل ممتهن والإساءة إلى أشخاصهم.
الوقفة السادسة: مراجعة النصوص وإجازتها محل نظر
هذه الوقفة مع أصحاب الفضيلة الذين راجعوا نصوص هذا العمل ولهم تاريخهم الحافل وقدرهم الكبير في نفوس الناس ما أكسب هذا العمل هذه الشهرة والذيوع الثقة فيهم، حيث ظهرت أسماؤهم في بداية كل حلقة من حلقاته ولكن العالم مسؤول أمام الله - عز وجل - وأمام نفسه وأمام الناس بأن «لا تأخذه في الله لومة لائم» ولعل أميز ما تميز به الفاروق - رضي الله عنه وأرضاه - أن الله جعل الحق على قلبه ولسانه وأنه أوّاب إلى الحق، فقد قال: «كل الناس أفقه من عمر» في حادثة رجع فيها إلى قول امرأة خالفته الرأي بالدليل و»رحم الله من أهدى إلي عيوبي» فأنتم يا أصحاب الفضيلة مسؤولون أمام الله لإيضاح الحق للناس، فإن كان هنالك فرق بين ما درستموه من نصوص مكتوبة وكان هنالك تباين بين النص والسيناريو والحوار وما تم تمثيله في الواقع وما احتوى هذا المسلسل من إساءة إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعامة والخلفاء الراشدين وعمر بخاصة مما تطلبته الحبكة الدرامية من أحداث ووقائع غير صحيحة وهي كثيرة جداً وما تم عرضه من نساء على أنهن أمهات المؤمنين أو زوجات الصحابة الأجلاء وغيرها من مواقف نسبت تحت دراستكم للنصوص والصحابة بريئون منها، بل إن نسبتها زوراً لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كنسبتها إلى أي أحد. ولعل أخطر ما جاء في هذا المسلسل أن يظهر من يدعي أنه أبو بكر الصديق أو من يدعي أنه عمر بن الخطاب فيقول: ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا وتكون الرواية التي قالها لم تصدر عنه وإنما برواية غيره من الصحابة ولم يكن حاضرا هذا الموقف، فإن هذه الأحداث سيتم تداولها بين الناس على أنها حدثت لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيها نسبة أحداث ووقائع منها الضعيف أو الموضوع وغير الصحيح وسيتناقلها الناس ويكون إثمها على من أجازها، فإن واجبكم اليوم في إنكارها أعظم مما قمتم به من إجازتها فهل تبينونه للناس ولا تكتمونه وأنتم تعلمون أن هؤلاء الأعلام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فواجبكم أن تظهروا أمام الناس وتبينوا لهم وأنتم أول من أجاز تمثيل الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم، فأخبروا الأمة ما المبررات في إجازة التمثيل للصحابة وأنتم تعلمون أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - تردد مراراً في جمع القرآن وقال: إنه أمر لم يعمله رسول الله -لى الله عليه وسلم - فكيف أقوم به حتى شرح الله صدره لذلك وهو القرآن المصدر الأول للتشريع.
الوقفة السابعة: فتوى علماء الشريعة والمجامع الفقهية ترفع الخلاف
إن ما أصدره مفتي المملكة العربية السعودية - وفقه الله - وما سبق أن أفتى به مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف وهيئة كبار العلماء والمجمع الفقهي من عدم جواز تجسيد وتمثيل الصحابة من العشرة المبشرين بالجنة والخلفاء الراشدين وهم أهل الاختصاص ورأيهم وفتواهم ترفع الخلاف لا رأي غيرهم من الإعلاميين وأهل الدراما، فكان واجبنا أن نحترم إجماع الهيئات والمجامع الفقهية.
وفي الختام أقول: هنيئاً لمن لم يشاهد هذا المسلسل واحتفظ بتلك الصورة الصافية في خياله للصحابة الأجلاء وبقيت في ذهنه تلك الصورة المشرقة لأصحاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - غير مجسدة.
وفي الختام لقد وقفت في تاريخ عمر بن الخطاب المشرق على أحداث وقصص ووقائع خدم بها الإسلام والمسلمين وأوصل لهم الدين وأشار بجمع القرآن وبنى حضارة إسلامية فريدة وبين للأمة الإسلامية إسلاماً نقياً وفقهاً ألمعياً تلقاه من نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - وأسقط حضارات زائفة ولا تستطيع الأمة أن توفيه حقه عما قدم للأمة ولكن الله يجزيه الجزاء الأوفى، فهل يستحق منا عمر بن الخطاب هذا الجزاء وهل نكافئه بما لا يرضاه. اللهم إن هذا جهدي في الدفاع عن عمر فاقبله واجعلني معه وسامحني على تقصيري واغفر لي يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.