قال ألفريد نورث وايتهيد: «لا توجد حقيقة كاملة؛ كل الحقائق أنصاف حقائق. وعندما نحاول أن نصنفها حقائق كاملة؛ يلعب الشيطان لعبته». ما السؤال الجيد الذي يصل إلى النواة؟ أين تكمن الشفرة السرية للسلوك البشري؟
أظن واحدة من مكتشفات القرن الماضي قد فتحت أفقاً إلى تلك الشفرة؛ وهي «حجر رشيد»، أو ما أسماه مكتشفوه Rosetta stone، واالذي يقبع حالياً في المتحف البريطاني. فقد قدمت محتويات تلك الصخرة مفتاحاً لفهم الدين، وعلم السياسة، وعلم النفس، والتطور الثقافي. وقد توسعت الجهود التي أبرزت تلك المضامين في جوانبها البيولوجية والنفسية والفلسفية، لتكون أساس الوعي البشري وتاريخ الأفكار.
فنواة الحقيقة تحتل مكاناً جوهرياً في تحولات التفكير، التي أصبحت في قلب اهتمام علوم الحياة والثقافة. في هذا المنحى بالذات ينظر الإنسان إلى التطور الثقافي من وجهة نظر تلك النواة، بدلاً من وجهة نظر الفرد أو المجتمع.
لماذا يعذب المرء نفسه، ويصنع نواة في قلب اهتماماته، بينما هي خارج إطار أولوياته؟ هل الإنسان في تاريخه كائن عبثي؟ يبحث عن الصعوبات، ويستبدل بها صعوبات أخرى، كلما اقتربت مكوناتها من قدراته الفكرية؟
أسئلة لا بد من الانطلاق في الإجابة عنها من تعريف تلك النواة؛ «فهي الوحدة الرئيسة لتحولات ثقافية تستدعي التوقف عند أيقونتها وتقليدها». أعرف أنني بذلك عقدت الأمر أكثر، لكن كل شيء نسميه ثقافة هو في الواقع متشكل من مكونات فسيفسائية من أمثال تلك النواة، والتي تتنافس بعضها مع بعض. كما تقوم بالانتشار من عقل إلى آخر، تماماً كما تنتقل الجينات بواسطة الحيمن والبويضة، ولأجل ذلك اخترت العنوان الذي يشير إلى تشابه العمليتين بدلا من العبارة العربية المعهودة للتعبير عن ظهور الحقيقة، من مثل: «وأطلت الحقيقة برأسها...»؛ مع أنه لو كان لها رأس لما خفيت، واستدعى البحث عنها كتابة هذه المقالة.
المرحلة التالية لذلك الانتشار (طبعاً النواة، وليس الحيمن)، هي أن تتغلب نواة على أخرى، تماماً كما تتسابق الحيامن في الوصول إلى البويضة وتلقيحها. فإذا تغلبت واحدة، فإنها تسيطر على العقول فترة من الزمن، إلى أن تأتي أخرى أكثر منها قوة، أو أقدر منها على جذب العقول، فتسيطر ردحاً من الزمن يطول أو يقصر بحسب تفاعل مكونات الثقافة مع معطياتها، أو قابليتها للانخراط في خدمة القوى المسيطرة على الموارد، لكي تتشكل وفقاً لمنظومة تلك الهيكلة الفكرية.
أما المرحلة الثالثة في تشويه تلك النواة، فهي نقلها إلى عالم اللغة، الذي يشكل بذاته تصورات أخرى للواقع. يعاد في تلك التصورات تشكيل أركان الرؤية، وأبعاد الفاعلية، وأقطاب السمات الرئيسة في كل عنصر تعنى به تلك التصورات.
فلنأخذ مثلاً كلمات مثل «الشرق» و»الغرب» و»الشمال» و»الجنوب»، التي تعبر عن وجهات نظر لحقائق جغرافية. لكنها نسبية، وتحمل أثقالاً من مصادر النواة الأولى لكل منها، ثم ثانياً أثقالاً أكبر من نظرة الإنسان إلى تلك الجهات ومحتوياتها الشيئية والبشرية، وثالثاً مكونات أكثر طمساً لما تراكمت في مخيلة الناس من مواقف ثقافية واجتماعية مرتبطة بتلك الجهات ومحتوياتها من تاريخ صراع ونشأة مصالح أو حروب وغيرها من مسببات للشحن الثقافي في تلك الكلمات.
فقد أصبح الشرق عند الغربيين هو الجمود والإثارة. أما الغرب عند الشرقيين فهو مرتبط بالفساد والتفكك الاجتماعي. هذا عدا أن الشرق لدى سكان العالم القديم (الشرق الأوسط وإفريقيا) هو شرق آسيا؛ بينما هو لدى الأوربيين والأمريكيين كل ما يقع شرقاً عنهم. فهي حقائق دوارة، وفاتنة للمجتمعات للإيقاع بها!
الرياض