كانت أخباره أخيراً تأتي متقطّعة، كان يخفي عن إخوانه وأحبابه ما يعاني حتى لا يشقّ عليهم، وهكذا بعض الرجال يعاني ويكتم ويتألم ولا يبين
إنّ الكريم ليخفى عنك (علّته)
حتى تراه صحيحاً وهو مجهود
كان - رحمه الله - سمحاً في حياته أنيقاً في ملبوساته بدوياً في بداياته متحضراً في تعاملاته، منذ عرفته واقتربت منه،
لم أقترف معه لأنه كان يحتفظ بخيط العلاقات والصداقات مع مختلف الطبقات. له مع البادية الذين يقصدونه طريقة ومع المتحضرين من المتمدنين سليقة ومع زملائه في الشورى والشركات الذين يخالطونه يومياً حقيقة.
أدرك في نشأته حياة الشظف فعرف قدر النعمة وتقلّب بعدها في مُتع الترف فشكر المنعم، كان من جيل مخضرم يعمل في كل ظرف ويتأقلم مع كل طرف، كان يتظرّف بالحديث ولا يتطرّف في الحوادث. اشتغل في شبابه في عدة جهات مختلفات وبلدات نائيات، عرك الدنيا وعارك الحياة والأحياء، فتجمع في شخصيته تجارب وخبرات كانت له معيناً في نجاحاته واختصارا لخطواته، كان مجلسه في داره أو مقره في دياره لا يخلو من زائر أو ضيف أو طالب شفاعة ودفع حيف. كان يتحمّل مطالب الناس وإلحاح الجلاس بالصبر والتجمّل والكثير من التحمّل، سألني مرة عن بعض أبيات من الشعر الفصيح ليتمثل بها إذا حزبه أمر.
كان الكرم والوفاء فيه طبعاً لا تطبّعاً وسخاءً لا تساخياً، كان يجيد إتقان كل الأدوار وهكذا الأذكياء (يتبدوى إذا أراد لكنه يعيش متحضراً كما يريد)، كان عامر اللويحق - رحمه الله - يكره الركاكة في الحديث والإطالة في السؤال عن الأحوال كعادة بعض جهلة العوام والدهماء من الأنام.
كنت أقدّر فيه خصلة أرجو أن يصر عليها كل رجل مسؤول. كان يقدّر ويقدم من يستحق التقدير والتقديم، ويوقف ويحجم من يستاهل الإيقاف والتحجيم، (وتلك والله) خصلة ومزية لا يستطيعها إلاّ شجعان الرجال الذين ينزلون الناس منازلهم، لقد افتقدناها في أكثر مجالسنا وأكبر مجامعنا مع الأسف، لذلك اهتزت المقاييس وتقدم من لا يستحق وتحدث من يهرف وسكت من يعرف وهكذا، إذا غاب صرحاء الرجال وشجعان القلوب:
إن فقد الكبار رزء عظيم
ليس فقد الرعاع والأرذال
كان - رحمه الله - يتصف بالفطنة والكياسة فلا ينخدع ببعض الناس ولا يضطرب عنده القياس. فقد تبنّى منذ زمن عدداً من الشباب توسّم فيهم وراهن عليهم، وكأنه المعني بقول الشاعر:
يبني الرجال وغيره يبني القرى
شتان بين قرى وبين رجال
إنّ الاستثمار في الإنسان عنده أهم من إقامة الحيطان والتطاول في البنيان.
يا عامر لو رأيت الجموع التي صلّت عليك ومشت خلف نعشك، وحضرت بعد ذلك إلى دارك تتبادل العزاء فيك وترجو التوفيق لبنيك، من أجبرها على ذلك إنه الوفاء لك إنه التذكُّر بعدك. وأختم بالدعاء فلتظلل قبرك سماء الرحمة ولتمطره سحائب الغفران
لعلك في جوار الله باق
ويشفع في خطاياك الرسول