(1) “ طُلبَ مني مرةً أن أطرحَ رؤيةً أُقيّمُ من خلالها تجربةَ مسارنا الإداري في هذه البلاد، فقلت متحّفظاً، إنني لا أملكُ التأهيلَ الكافي ولا التجربة الشافية كيْ أتصدّى للردّ على سؤالٍ مثْقلٍ بالهمُومِ والهَواجسِ بحجْمِ هذا السؤال، لكنني سأُدوَّنُ بعضَ ما عندي من رُؤَىً يسيرةٍ تلقي الضوءَ على السؤال، لكنَّها لا تُشْفي غليلَ سَائله، وهاكم إطلالة قصيرة على بعض ما كتبتُه رداً على ذلك السؤال:
“ (التقويمُ الإداري) هو عنوانُ المرحلة الراهنة التي تعيشُها بلادُنا الغالية، مما يسْتصْحبُ التفكيرَ في أدوات تحقيق هذه النقلة الطموحة من حال إلى حال، وقد اقترنَ هذا المصطلحُ بأدبيّاتِ الإدارة وتَطبيقاتِها في بلادنا منذ نحو خمسةِ عُقُود، وتلك قضيةٌ أدركَها ولاةُ أمر هذا البلد منذ حين، وشُكَّل من أجلها وفي سبيلها أكثرُ من فريقِ عملٍ عالي المستَوى لمراجعةِ وتقْييمِ هياكِل الإدارةِ، واقتراحِ الحلُول الملاَئمةِ لجعلها أكثرَ فاعليةً وأثْرىَ أداءً.
“ لقد بدأ مخاضُ الإصلاحِ الإداري في بلادنا أواخِر السبعينات هجرياً، ولم يَخْبُ أوارُه حتى اليوم، كان حمْلُ التنميةِ وما زال ثقيلاً، وتولّتْ الدولةُ مهامَ عسيرةً لرفْع شأن المواطن، ونَتَج عن ذلك ترهّلٌ في بعْضِ قطاعات العمل وتضخّمٌ في عدَدِ العاملين، والأملُ معقُودٌ بعد الله، على الاستفَادةِ من نتائجِ برامجِ التقويمِ الإداري، ما مضَى منها، وما هو رهْنُ التصُّورِ أو الإنْجازِ، لتتحقّقَ به خطواتٌ أعمقُ حضُوراً وأدقُّ أثَراً في تجسيد نقلةٍ نوعيةٍ جديدةٍ في البُنْيةِ القياديةِ والتنفيذيةِ للإدارةِ الحكومية أداءً وإنجازاً!
“ بقيَ لي أن أقولَ في ختام هذه المداخلة القصيرة أنّ مُهمّةَ تقويمِ الأداء في أيّ جهاز إداري، عَظُم أو صَغُر، ليست مهمةَ فردٍ واحد، لكنَّها نشاطٌ يتم إنجازُه مؤسَّساتِياً، بمْعنَى أن تَتَولَّى تنفيذَه منظومةٌ متخصَّصةٌ تملكُ الخبرةَ الراسخةَ في التنظيمِ والإدارةِ، تَستطيعُ أن تُشَخّصَ الداءَ وتَصفَ الدواء، بما ينْفَعُ ولا يضرّ، وما عدا ذلك.. فهو لا يعدُو أن يكونَ عملاً ظنّياً أو انطباعياً، لا يؤتي شيئاً من النفع المنشود !
(2) “ لم يكن أدبُ السَّير الذاتيةِ زاداً لي يوماً ولا متَاعاً، وما كنتُ أفكّر يوماً، ولو على صِرَاط الحُلم، أن أخوضَ تجربة التَّدوينِ الذاتي لما يمكن أن يوصف بـ(السيرة)، لكنّني ألفَيتُ نفسي ذاتَ مسَاء من صيف عام 1425هـ أمسكُ القلم وأبدأُ كتابةَ نصٍّ يتَحدَّثُ عن بدَاياتِ حيَاتي، إدراكاً مني بأنَّ فيها ما يَستحقُّ أن يُروَى، وجاءت تلك الولادة (متعثَّرةً) بادئَ الأمر، لأنني لم أكنْ مقْتنِعاً بقُدرتي على مواجَهةِ تلك التجربةِ القاسيةِ، بالغَوْصِ في مجَاهِل الذاكرةِ بحْثاً عمَّا يستّحقُّ التدوينَ، وكان هناك أمرٌ آخر عانيت منه بادئ الأمر أيضاً، وهو أنَّ (النَّبشَ) في رُفَاتِ الماضي ليسَ أمراً محبَّباً إلى النفس، لأنّ فيه جروحاً لم تَندملْ وأوجَاعاً لم يْعفُ عنها الزمانُ !
“ ورغم ذلك كله، استعنتُ بالله واستنفرتُ مخزون الخاطر من ذكريات لم تُغْرقْها سَحائبُ العمر ولا عَبثتْ بها (عثّة) النسيان، وقد بدا لي وأنا أختم الكتابة أمران: أحدهما:
“ الندمُ البالغُ أنّني لم أدونْ فيما سلف من أيامي الكثيرَ ممَّا جَاء لاحقاً في كتابي (قطرات من سحائب الذكرى)، فكان اعتمَاديَ بعد الله على الذاكرة.
وثانيهما:
“ عَجبْتُ وما بَرحْتُ أعْجبُ كيف تذَّكرتُ مواقفَ موغلةً في القدم بتضَاريسِها العاطفية من ألمٍ وفرحٍ وخَوفٍ ورجَاء، وكأنَّها حديث الليلة البارحة، وعَجبتُ أيضاً من (انتقائيةِ) الذاكرة لمواقفَ تحتفظ بها في حين تسلّم أخرى لسلطةِ النسيان !
(3) “ هذه خاطرةٌ من نسْج الخيال يمكن أن تُستَهلَّ بها ذاتَ يوم قصةٌ ذات معنى. تقول الخاطرة:
“ كانت (..) وابنتها الكبرى تتسَامران ذات مساء، حين فاجأت الابنة والدتها بهذا السؤال الحميم جداً: أُمّاه.. ما رأيك لو رسمتُ الحناءَ في يدي ؟ فردَّت الأمُ بحميمية أقْوَى من السؤال قائلةً: إنْ فعلتِ يا ابنتي ذلك، فَلكِ ما تريدين، لكن الجمَالَ (مرسُوم) في يدكِ لا في الحناء ! أما إنْ لم تفْعلي، فلن يُنقِصَ ذلك من جمالك شيئاً.. بل سيزيد !
“ وهنا علقت الابنةُ على ردَّ أمها قائلة: ((أفهم من حديثك يا سيدة الحنان أنك تحرضينني ألاّ أفعلَ ما أردتُ فعلَه، فردّت الأمُ بحَزمٍ: نعم ! وهنا.. أشرقَ ثغْرُ الفتَاة بابتسَامةٍ اختصَرتْ معاني الحبَّ والجمال !