عندما وصف الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلي، بـ: « أنّ الأمة الإسلامية، تعيش في أصعب أوقاتها منذ الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي - كله - «، فقد أصاب كبد الحقيقة، ونفذ إلى باطنها، وما خفي منها. فالمقدمات المؤلمة كثيرة، ومثيرة، وضخمة بحجم البؤس المليء بالفوضى السياسية، والأحداث المتلاحقة من كوارث، وأزمات.
مقدمة!
عندما نصف واقع الأمة الإسلامية، بأنها تعيش واقعاً مريراً في كثير من أرجائها، بل تعيش أوضاعاً محزنة، ومآسي مؤلمة، يندى لها الجبين، وتتفطر لها القلوب، دون أن يكون هناك جهود مؤثرة، تحفظ الدماء، وترفع الظلم، وتعيد الحق إلى أهله، وتحمي الديار، فإنّ قمة التضامن الإسلامي التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبد الله بن عبد العزيز، يومي: 26 و27 من شهر رمضان الجاري في مكة المكرمة، تؤكد ضرورة نهوض العالم الإسلامي بأسره؛ لتحمل مسؤولياته تجاه الأزمات التي تحل بالعالم - العربي والإسلامي -، وتوحيد صفوفه في هذا الوقت الدقيق، وسط المتغيرات المتلاحقة؛ لمواجهة المخاطر التي ألمّت بالأمة الإسلامية من احتمالات التجزئة، والفتنة، في الوقت الذي تحتاج فيه - أيضا - إلى وحدة الصف، واجتماع الكلمة، والقضاء على شرذمتها.
الأمة مأمورة بأن تأخذ بأسباب النصر، والتمكين، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ لإيجاد مزيد من التكامل، والتآزر بين أوطان المسلمين. ومن ذلك على سبيل المثال: ضرورة لبحث عن حل جذري للأزمة السورية، التي تتصاعد فيها آلة قتل النظام الوحشية لأبناء الشعب السوري. وحث الأشقاء في فلسطين على تحقيق المصالحة الوطنية؛ لمواجهة الممارسات الصهيونية المستمرة من تهويد للقدس، ومحاولات هدم المسجد الأقصى. - إضافة - إلى التدخل الفوري لوقف المجازر، وعمليات التطهير العرقي، والإبادة الجماعية التي تمارسها جماعة بوذية متطرّفة ضد المسلمين في « ميانمار «، وما أدت إليه من قتل الآلاف من المسلمين، وفرار آلاف آخرين؛ جراء الاستهداف المنظم للمسلمين هناك.
إنّ مجرّد الدعاوى الفارغة، والهمّ السلبي الذي لا يبعث على العمل، لن يغني عن أمتنا شيئاً. وما يحدث لها يقع في دائرة السنن الربانية، التي لا تتبدل، ولا تتغير. ولن تعود إلى سيادتها إلاّ وفق هذه السنن، التي لا يجدي معها تعجل الأذكياء، ولا وهم الأصفياء، بل لا بد أن تكون على المستوى الحضاري، اللائق بها أمام دول العالم. - ولذا - فقد كانت المملكة العربية السعودية، وستبقى - بإذن الله - اللاعب الأساسي في الساحتين - العربية والإسلامية -، برضا، وموافقة الأطراف العربية الأخرى، التي باركت الجهود السعودية الناجحة في تهيئة الأجواء، لاتفاق مكة التاريخي، الذي لم يكن الأول من نوعه، بل سبقه العديد من المؤتمرات، ومن ذلك على سبيل المثال:
حلم المصالحة بين الفصائل الفلسطسينية!
من هذا المنطلق، دعا - خادم الحرمين الشريفين - قادة الدول العربية إلى لقاء عاجل في مكة المكرمة؛ لبحث حل يوقف الاقتتال فيما بينهم. وقال - حفظه الله -: « أدعوهم جميعاً لا فرق بين طرف وآخر، إلى لقاء عاجل في وطنهم الشقيق المملكة العربية السعودية، وفي رحاب بيت الله الحرام؛ لبحث أمور الخلاف بينهم بكل حيادية، دون تدخُّل من أي طرف آخر؛ لنحقق لأمتنا العربية والإسلامية أحقيتها في قضيتها، ولنصل إلى حل يرضي الله - سبحانه وتعالى -، ويحقق آمال وتطلّعات الشعب الفلسطيني الشقيق، والشعوب الإسلامية والعربية، وكل من آزر القضية ودعمها «.
فطيلة حوالي عام من نشأة الأزمة الفلسطينية، والتي ترافقت مع تشكيل حكومة حماس، مددت أياد كثيرة؛ لمساعدة الفلسطينيين في الخروج من محنتهم، لكنها كانت تصطدم بالكثير من العقبات. وإن كان الوسطاء السابقون، قد حققوا كثيراً من الإنجازات التي قام عليها اتفاق مكة، إلاّ أنّ هذا الاتفاق يحسب إنجازاً للمملكة العربية السعودية، التي تعمل على مبادئ، وأسس سياسية - عربية وإسلامية ودولية - ثابتة، منذ تأسيس هذا الكيان العظيم، الذي أسسه جلالة - الملك - عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله -، حيث تتلخّص هذه المبادئ، والأسس بالمصداقية، وعدم التدخل في شؤون الغير، ومساعدة الأشقاء، والأصدقاء، لما فيه خير الأمّتين - العربية والإسلامية -.
وقد كانت دعوة - خادم الحرمين الشريفين - الأخوة الأشقاء من القيادات الفلسطينية، إلى بيت الله الحرام، وفي شهر الله الحرام على أرض مكة، ومهبط الوحي، وقبلة المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، بالغ الحظوة، والتقدير من كل النابهين للأخطار التي تتربص بالأمّتين - العربية والإسلامية -، من كثير من قوى الشر المحيطة.
لقد كان حلم - خادم الحرمين الشريفين -، أن يتفق أطراف الأزمة الفلسطينية على عدد من الأمور الأساسية، أولها: تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة حماس. وثانيها: تحقيق الوحدة الوطنية، ومنع الاقتتال الفلسطيني مهما كان الثمن، أو المبرر. وثالثها: الاتفاق على البرنامج السياسي للعمل الوطني. ورابع هذه الأمور، هو: إحياء منظمة التحرير الفلسطينية؛ لتكون مظلة شاملة لكل الفلسطينيين.
- وبالتالي - فقد بدأت حقبة تاريخية جديدة للنضال الفلسطيني؛ من أجل الحرية، والاستقلال. حيث إنّ اتفاق مكة بين حركتيْ - حماس وفتح -، كان سيمهّد الطريق أمام أول حكومة وحدة وطنية حقيقية. وسيتيح لجميع الفصائل إعادة بناء المجتمع، بعد الدمار الذي جلبه الاحتلال الإسرائيلي. واستئناف حملة؛ من أجل الحقوق الوطنية. وكان سيشق الطريق؛ لإعادة بناء السلطة الفلسطينية، وضم جميع الأطراف؛ لتصبح الممثل الشرعي لكل الشعب الفلسطيني إذا أحسنت النيات.
وفي مقابل ذلك، كان - خادم الحرمين الشريفين - ينادي المجتمع الدولي، بأن يغتنم هذه الفرصة التاريخية، ويطالب إسرائيل باحترام حقوق الفلسطينيين، والتوقف عن مساعيها الرامية؛ للحيلولة دون تحويل اتفاق مكة إلى واقع، مما قد يتسبب في إقصاء كل الفصائل الفلسطينية. كما كان ينادي الغرب، بأن يصحوا، ويدركوا: أن الوقت لم يَعُد في صالح إسرائيل، وسياسات الاحتلال، والتدمير، والتوسع. - وبالتالي - لن يكون هناك سلام، أو استقرار في المنطقة، دون تسوية القضية الفلسطينية. ولن يتحقق ذلك دون إنهاء الاحتلال، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.
مشروع المصالحة العربية الشاملة:
استطاع - خادم الحرمين الشريفين - أن يجمع كلمة العرب، في القمة العربية الاقتصادية، التي انعقدت في الكويت، في: 23 / 1 / 1430هـ، وأن يقرّب وجهات النظر فيما بينهم، فاحتوى الخلافات - العربية العربية -، ونقلها من غرفة الإنعاش إلى إعادة الحياة للعلاقات. فشكّلت تلك المصالحة بحق، اختراقاً في ملف المصالحة - العربية العربية -، بتجاوز مرحلة الخلاف بين العرب. وكانت مرحلة جديدة في مسيرة العمل العربي المشترك، وحجر زاوية؛ لمواجهة تحديات الحاضر، والمستقبل. وإنجاح أي عمل عربي مشترك في المستقبل، وفق رؤية إستراتيجية عربية موحدة، وانتهج أسلوب الحوار، والتشاور، والابتعاد عن إثارة الفتن، والتصعيد، ولغة التهجم، والتوتر، ونبذ القطيعة، والخصام؛ من أجل أن يبلور إرادة واعية بأهمية المرحلة المقبلة، فلا مكان للمزايدات السياسية، أو التنابز اللفظي بما لا يليق.
السودان وتشاد .. اتصال لا انفصال!
وفي إطار حرص - خادم الحرمين الشريفين - على جمع الكلمة، ووحدة الصف، ورأب الصدع، ولمّ الشمل، تم في: 2 مايو 2007 م، التوقيع على اتفاق ثنائي؛ لتطوير، وتعزيز العلاقات بين جمهورية السودان، وجمهورية تشاد في الرياض. وفي شهر رمضان من عام 1428 هـ، عقدت بقصر المؤتمرات في جدة، الجلسة الختامية لمؤتمر المصالحة الوطنية الصومالية، وجرى استكمال التوقيع على اتفاق المصالحة الوطنية الصومالية.
لا بديل عن وحدة العراق!
إدراك - خادم الحرمين الشريفين - معاناة الشعب العراقي، واستهدافه في وعيه، ببنود اتفاقيات تملى عليه من الخارج، ومؤامرات تحاك ضده. منها: ما تمس بشكل كبير سيادة العراق على أرضه، ومياهه، وسمائه، وما يتعرّض له العراق من قتل، وتدمير يومي، حوّلته إلى ميدان للصراع الطائفي، وتصفية الحسابات. وما يعانيه - أيضاً - في ظل توجُّسات، ومخاوف تهدد الأمن الداخلي. - إضافة - إلى مساحة الفراغ الكبير للخارطة السياسية الذي يعيشه العراق. كل ذلك أدى إلى تعقيد المشكلة بدلاً من حلها. وفرخت أزمات جديدة أكثر تعقيداً، وخطورة. وتلك مؤشرات لا تعطي أي ضمانات؛ لحماية العراق من أي اعتداء خارجي، أو حماية نظامه الديموقراطي من أي خطر داخلي، أو خارجي.
وعندما رفضت بعض الكتل السياسية العراقية - وهي أقلِّية -، مبادرة - خادم الحرمين الشريفين - عبد الله بن عبد العزيز، والتي وجهها إلى - الرئيس العراقي - جلال طالباني، وإلى جميع الأحزاب التي شاركت في الانتخابات، والفعاليات السياسية العراقية؛ من أجل تحقيق المصالحة، والتفاهم، وإزالة الخلافات، ليس من الحكمة في شيء. فما يتعرّض له العراق من قتل، وتدمير يومي، وما يعانيه - أيضا - في ظل توجُّسات، ومخاوف تهدد الأمن الداخلي، - إضافة - إلى مساحة الفراغ الكبير للخارطة السياسية الذي يعيشه العراق.
راهن العقلاء فيما مضى، على أن نجاح الانتخابات العراقية، كان سيساهم في رسم مستقبل العراق، - إضافة - إلى رسم ملامح المنطقة، إذا توافر أمران، أحدهما: أن يستطيع العراقيون التغلّب على ورقة الطائفية في السياسية، والمجتمع، وإدارة شؤونه الداخلية حسب المعايير الديمقراطية؛ لتكون الدولة العراقية ذات سياسة مدنية. والأمر الآخر: أن تتدخل دول الجوار - كالسعودية وتركيا ومصر -؛ من أجل التصدّي للاختراقات الإيرانية، وتعميق أهدافها الإستراتيجية في العراق. وبدون هذين الأمرين، لن تحمل تلك الانتخابات أي جديد للعراق، ولا لدول الجوار.
يقف المشهد السياسي أمام قضايا مهمة، لعلّ من أبرزها: تزايد إرهاصات الفتنة الطائفية؛ بسبب النزاعات في العراق، - ولذا - فإنّ الحاجة ماسة لتحرك فاعل؛ لتهدئة الفتنة، - لاسيما - وأنّ بعض الأطراف ساهم بقسطه في إشاعة هذه الفتنة، من أجل أن تتقدم بمبادرات إيجابية؛ للمساعدة في هذه العملية. فتحويل العراق إلى ميدان للصراع الطائفي، وتصفية الحسابات والابتزاز، سيدفع ثمنه الباهظ - بلا شك - كل الدول المجاورة للعراق. كما سيدفع بسلبيات عدة على الشأن الداخلي، من بينها: استمرار الفتنة الطائفية التي طلت برأسها على الساحة، - فضلاً - عن مظاهر الفرقة والانقسام، التي تغذيها الصراعات المختلفة، بما فيها الأوضاع المضطربة في المنطقة.
ومن هذا الأساس، فقد توجّه هم - خادم الحرمين الشريفين - إلى هدف وحدة العراق، من منطلق الحرص على المساهمة في تحرك العراق نحو المستقبل، بما يضمن استعادة دوره في المنطقة. ودعا الفرقاء السياسيين للاجتماع في المملكة، تحت مظلة جامعة الدول العربية؛ للتوصل إلى اتفاق بشأن تشكيل حكومة وحدة وطنية، والمساهمة الفعّالة على كلمة سواء.
إذ إنّ العمل على إجهاض مشروع التقسيم، أمر في غاية الأهمية. فالتقسيم يهدد أمن دول المنطقة، ويستهدف خارطتنا، وسيعصف بوحدة العراق. كما أن عدم المساس بكركوك، أمر لا يجب التفاوض عليه، أو التهاون به، بل هو خط أحمر لا يمكن تجاوزه. فكركوك عراقية الوجود، وعراقية الانتماء بلا منازع. - وبالتالي - فإنّ من مصلحة العراق، ومن يحيط به، أن يبقى موحداً، وعلى كل الأطراف احترام ذلك، وبخلاف ذلك، لا يوجد معنى لتقرير المصير، بل ستكون تلك الدعوات، بداية لتشكيل الانقسام، وستولد عرقيات، وقوميات أخرى، تفسد الوحدة الوطنية. وهذا هو النموذج، الذي بشرّتنا به وزيرة الخارجية الأمريكية - السابقة - كوندليزا رايس، عندما قالت: « إنّ العراق سيقود بنموذجه السياسي، والديموقراطي المنطقة «.
مؤتمر العالم الإسلامي .. المشكلات والحلول!
وسط أحداث مضطربة، تجتاح العالم العربي تمزّقات طائفية، وفتن مذهبية، حتى وصل حال بعض الدول، أنها مهددة بالتناحر، والتشرذم، والوصول إلى ما يُسمى بالفوضى الخلاقة، عُقد يوم السبت، الموافق: 22 / 8 / 1432هـ، مؤتمر: « العالم الإسلامي .. المشكلات والحلول «؛ ليطلق رسالة عالمية تشمل جميع الجهات، ومختلف الرؤى في بيان خطورة النزاعات الطائفية، حسب تصريح الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي - الدكتور - عبد الله التركي.
ناقش المؤتمر أوضاع العالم الإسلامي في ضوء المشكلات، التي عمّت بعض البلدان، وأذكر أنه ركّز على أمرين في غاية الأهمية، هما: ما يتعلق بوحدة المسلمين، وما يسهم في تحقيقها، ومواجهة أسباب الفرقة، ومدى ارتباط ما ستنتج عن الأحداث بالإسلام، ومدى الاعتزام على تطبيق الشريعة الإسلامية في حياة الشعوب المسلمة. وكان اعتماد خط الانفتاح، والحوار في المؤتمر، أن شكّل تحوّلاً نوعياً في روافد الخطاب، والمساهمة في الاقتراب من حلول وطنية حقيقية؛ لتفكيك المشكلة.
لا نستطيع إغفال دور التدخلات الإقليمية، والدولية في تغذية هذه الظاهرة، - إضافة - إلى أسباب أخرى، كالأيديولوجية الفكرية بمورثاتها التاريخية، والذرائع التي تُسوغ تجييش مشاعر الكراهية، والحقد، والتهاون بسيادة الوطن إلى درجة توريث الأجيال المقبلة التبعية، واتخاذ قرارات غير محسوبة العواقب، والآثار، وتمرير مؤامرات أضرت بدول، لا زالت تعاني من النزاعات الطائفية.
إنّ إذكاء هذا النوع من الخلافات، وأعني: الاصطفافات الطائفية، والتمترسات المذهبية، قد يكون طريقاً نحو تقسيم تلك الدول إلى دويلات، - خاصة - إذا استغلت الورقة الطائفية، كمشروع مضاد لمشروع الدولة، كما يحدث واقعاً - مع الأسف - في لبنان، والعراق، وذلك بما يُعزز جوهر الأزمة الطائفية في العالم العربي؛ للازدواجية الحاصلة بين الخطاب السياسي، وبين الواقع العملي، - وبالتالي - سينتج فشلاً في إدارة الواقع الطائفي، نتيجة الاستجابة للشحن الطائفي، وتبعاً للتجاذبات السياسية التي تشهدها المنطقة. هذا الفشل كما عبّر عنه - الأستاذ - عادل السنديوني، يحكي في إدارة الواقع الطائفي « حالات توظيف الانتماء الطائفي؛ لتبرير مشاريع السلطة، والسياسة في العالم العربي، وهذه الممارسة لم تقتصر على الحقبة الاستعمارية، بل كانت حاضرة، وبقوة في مسعى الدولة العربية الحديثة، الرامي إلى التغطية على ضعف بنيان الشرعية لديها «.
كان أحد أهم أهداف المؤتمر، العمل على بناء مجتمعات متماسكة، تتمتع بالوحدة الوطنية، وهو ما يتطلّب إذكاء روح المواطنة، ونشر ثقافة الحوار بين شباب الوطن؛ لحل النزاعات الطائفية. وتقديم ثقافة وطنية صلبة ضد الانخراط في النزاعات الطائفية، والفتن المذهبية، فالتعدد الطائفي أمر واقع، لا مفر منه. ولعل هذا ما يطرح التأكيد على دور العلماء، وأهل الرأي، والفكر. والتركيز على القواسم المشتركة في إخماد نار الفتنة، والتحريض الطائفي.
لبنان .. الخطر الطائفي!
الخطر الطائفي على لبنان، إذا ما استمر على هذا المستوى، ستحوّله إلى حروب لا تنتهي، وتحزّبات لا تتوقف، وصراعات لا تخمد، وهو ما حذّر منه خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبد الله بن عبد العزيز في 22 مايو 2012 م، عندما وضع النقاط على الحروف، والإصبع على الجرح، في برقية وجّهها إلى - الرئيس اللبناني - ميشيل سليمان، من خطر إعادة لبنان إلى أتون الحرب الأهلية - مجدداً -، ومشدداً على قلق المملكة من استهداف طائفة رئيسية في لبنان - بعد الأحداث الأخيرة في طرابلس -. وكأنه يوصي - حفظه الله - اللبنانيين جميعاً، بالبحث في وسيلة نجاة لطائفة عزيزة من طوائفهم، إذا أحبطت فسيدفع لبنان - كله - الثمن غالياً، - خصوصاً - وأن بعض الأجندة المشبوهة، تلعب على ورقة التوازنات الطائفية المسلحة، وإشعال رماد تلك الصراعات في دول الجوار.
ما حدث في طرابلس، وعكّار، وبعض شوارع بيروت، دليل على أنّ حالة لاتساع نطاق عمليات العنف الطائفية، وامتدادها من سورية إلى لبنان المجاور لها، وهو الخطر الحقيقي في أعمال العنف الممتدة من سوريا إلى الدول المجاورة، سببه الخطاب الطائفي المتطرّف؛ مما سيضفي مزيداً من الجدل على خلفية ما يحدث، ومخاطر الانزلاق إلى مشاكل متفاقمة، أبرزها: خطر الطائفية. والذي سيخلف على الأرجح، نوعاً من مشاعر سلبية لدى المعنيين. فالتحريض من خارج متاريس الصراع، يجعلنا نفكر مليّاً في مساوئ فقدان دور كبير يشكل خطراً، ليس - فقط - على الاستقرار، وإنما على وجود هذا البلد، والعودة به إلى مربع الصراع الأهلي، وضرب أسس التعايش، والتوافق بين الأطياف اللبنانية.
الطائفية المقيتة، جعلت من لبنان - مع الأسف -، يعيش في مراتب متقدمة من دول التخلّف الفكري، والصراع الديني. وما حصل - قبل أيام - من اغتيال سياسي لشخصية سنّية لها ثقلها، سيؤسّس - لا قدّر الله - إلى انقسامات أليمة، وفتن طائفية، وحرب مذهبية، وصراعات سياسية دموية، وعنيفة، قد تنطلق - اليوم - من طرابلس في الشمال؛ لتحرق باقي الوطن المكبّل - دوماً - بالأزمات السياسية.
لبنان مرة أخرى، لا تهدأ صراعاته، ولا تنتهي حكاياته. فنظامه السياسي الطائفي، هو مولّد أزماته، وهو من أدخلها في البازار الطائفي، - خصوصاً - في ظل غياب رؤية سياسية مستدامة، تعالج الاحتقان من جذوره. فهذا العنف الدائر في طرابلس، قد يخلق ديناميكية ردّات فعل هنا، وهناك، محاولة العودة إلى انفراط هيبة الدولة، والذهاب باتجاه الفوضى، وعودة الصراعات الطائفية، والمذهبية في البلاد، إذ إنّ ما يحدث على أرض الواقع، يشكّل خطراً كبيراً على السِّلم الأهلي، وهو ما عبّر عنه وزير الداخلية اللبناني، بقوله: « إنّ المسألة، تخطّت الشق الأمني، وأنّ الحل الجذري، ينبغي أن يكون سياسياً؛ لأنّ التدخل الأمني، سيكون مكلفاً، ولن يعالج أصل الأزمة «.
حِرْصُ خادم الحرمين الشريفين على تأسيس لبنان على أسس وطنية، أساسها المواطنة، وبلد له علم واحد، لا فسيفساء من الرايات، ستقارب المسألة بجرأة وطنية، وستعيد تصحيح الأوضاع إلى نصابه المعتدل، وستحافظ على لبنان الطوائف، والتنوّع، والتميّز. فقد لا يكون الأوان قد فات حقاً على احتواء هذه الأزمة، وتفادي تفاقم رقعة المشاكل؛ لتجنيب البلد فتنة عمياء، قد تعيده إلى الوراء عقوداً من الزمن.
سوريا .. أمران أحلاهما مرّ!
يستكثر الرأي العام، الذي لا يزال غائباً - بشكل عملي - عما يدور من مآس في سوريا، طلب الحماية الدولية؛ لاتخاذ إجراءات حاسمة في حماية الشعب السوري، وإيقاف آلة القتل الممنهجة، وأعمال العنف الدموي، الذي يمارسه النظام الحاكم في حق كل من يطالب برحيله، مع أنّ الأحداث الدامية التي تجري على الأرض في سوريا تتحرك بسرعة، وأعداد الضحايا تتزايد بشكل مخيف.
لا زلت أذكر خطاب - خادم الحرمين الشريفين - في رمضان العام - الماضي - 1432 هـ؛ لوقف مسلسل العنف، الذي مارسه النظام ضد شعبه الأعزل. فكانت بحق أقوى ردّ فعل عربي في تلك اللحظة على الأحداث الجارية في سوريا. كما اعتبرت نقطة فاصلة بين مرحلتين في الأزمة السورية، حين وقف الخطاب على مسافة واحدة من جميع الأطراف الداخلة في الأحداث، فشخّص - حينها - الداء، وأوجد الدواء. وكسر حاجز الصمت العربي حول ما يجري من اتساع دائرة العنف - منذ منتصف مارس العام الماضي -، والتي راح ضحيتها في تلك الفترة - قرابة - الألفي شخص، وذلك وفق مصادر لنشطاء، ومنظمات حقوقية، كما أرغمت عشرات الآلاف من السوريين على الفرار إلى دول مجاورة، كتركيا، ولبنان.
ولأنّ تطوّرات المرحلة الماضية، كانت مرتبطة بحسب ما ستؤول إليه الأحداث، فإنّ الرسالة التي تضمّنتها كلمة - الملك - عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله -، بأنّ: « مستقبل سوريا بين خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن تختار بإرادتها الحكمة، أو أن تنجرف إلى أعماق الفوضى، والضياع، لا سمح الله «. ولا يكون ذلك إلاّ بإيقاف آلة القتل، وإراقة الدماء، وتحكيم العقل، وتفعيل إصلاحات سريعة، والتصالح مع معارضيه؛ من أجل إقامة دولة حديثة، يكفل - من خلالها - حقوق الشعب السوري، بما يصون كرامته، ويحقق تطلّعاته، وإلاّ فإنه سيواجه مصيراً مؤلماً.
يتخوّف البعض من أنّ القادم سيكون أصعب، - خاصة - وأنّ موقف المجتمع الدولي - حتى هذه اللحظة -، لم يواكب طموحات الشعب السوري، ولا تضحياته الجسام، ولم يفرز الحل السياسي المقترح - سوى - مواقف متضاربة، زكّت استمرار لغة القتل في سوريا، حين اعتمدت الخيار الأمني في التعاطي مع الانتفاضة الشعبية، إلاّ أنّ العمل على استنباط الحلول، وتغيير الواقع المخيف، يستدعيان التدخل الدولي العاجل؛ لحماية المدنيين، والسماح للمنظمات الإنسانية الدولية بالتدخل الإنساني، وتقديم العون للمحتاجين، والجرحى، والأرامل.
إنّ سياسة الأرض المحروقة، والمجازر البشرية الشاملة، بيّنت بالأرقام انتهاك هذا النظام للاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، بل اتخذ النظام تغيير إستراتيجيته في تغليب الواقع لصالحه، بعد تزايد انشقاقات الجيش الحر، فشرع إلى استخدام الطيران الحربي، وقصف المدن، وهو ما يتطلّب قطع يد الإرهاب السّلطوي، وتقديم أعمدة الإجرام السوري إلى المحكمة الدولية لجرائم الحرب؛ لتكون كلمة العدل، هي الفيصل.
قمّة التضامن الإسلامي .. نداء اللحظات الحاسمة!
بقي أن أقول: إنّ المملكة العربية السعودية ستبقى بيت العرب، والمسلمين، الذي يتسع لجميع الفرقاء، ويطيب الجراحات. كما أن ثقلها الديني، والسياسي، يفرض عليها أن تساعد، وتساهم، وتتوسّط في بلورة الحلول؛ لرأب الصدع، وتجميع الجهود؛ للظهور بمظهر الوحدة السياسية، وخلق إرادة واعية بأهمية المرحلة المقبلة، فلا مكان للمزايدات السياسية، أو التنابز اللفظي بما لا يليق، - خاصة - إذا ما توفرت الأجواء الملائمة للعمل المشترك، والمدعوم بالنوايا الحسنة، والإرادة السياسية اللائقة بالحدث، وهذا ما تفرضه أدبيات السياسة.
خاتمة!
تمتلك الأمة - العربية والإسلامية - مقوّمات النصر - بإذن الله -، بعد أن انحرفت الأمّة عن مسارها الصحيح، ووقعت في انفصام نكد بين منهجها المنير، وواقعها المرير. إلاّ أنّ هذا الواقع الأليم، سيحتم على قادة الدول المشاركين في المؤتمر، وحدة الصف الإسلامي، واجتماع الكلمة؛ لمواجهة قوى الظلم، والاستكبار، التي تحيك في الخفاء المؤامرات بحقها.
وستكون دعوة خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - في هذه الليالي المباركة، محملة بالتحديات الصعبة، والذكريات الحافلة بالانتصارات، رغم الأحزان التي تعترينا، والمصائب التي تتملّكنا. ولن يتحقق النصر إلاّ بمدد إلهي، ومساندة ربانية، واستكمال أسبابه، وهذا هو المؤمل - بإذن الله تعالى -.
drsasq@gmail.com