(1)
يعتقد البعض أن الخطاب الثقافي منصرف لفئة محددة ، وهذا خطأ بيّن، فالثقافة يبنيها الجميع ويهدمها الجميع أيضاً. وعليه فإنه لا أحد مستثنى من الخطاب الثقافي بكل مفرداته ومقوماته واستحقاقاته وتكاليفه. ومن هنا فإنني أوجه
حديثي اليوم إلى رياضيينا جميعاً، لاعبين ومدربين وإعلاميين ومعلقين وإداريين ومشجعين (وأنا أعد نفسي واحداً منهم)، وقد توسل عنوان المقال باسم “نواف بن فيصل” لكونه يمثل أيقونة رسمية للمجتمع الرياضي من جهة، ولكونه أكبر شخصية مسؤولة عن الرياضة في البلد، وعليه المسؤولية الكبرى، طبعاً في جوانبها النظامية.
(2)
وسيكون حديثي أريحياً وبعيداً عن الرسميات، لأقول للأخ “نواف بن فيصل” ولكافة الإخوة الرياضيين ثلاث رسائل:
1- الرياضيون مسؤولون معنا؛ لساناً بلسان للحفاظ على لغتتنا الدينية والقومية.
2- الرياضيون مسؤولون معنا؛ تعبيراً بتعبير لتنمية لغتنا الحضارية ودفع كلفة عالميتها.
3- الرياضيون مسؤولون معنا؛ لفظة بلفظة لإعانة لغتنا (=هُويتنا) على تجاوز محنتها.
(3)
أيها الرياضيون الشرفاء، اللغة كما نعلم جميعاً - أو يجب أن نعلم - ليست رموزاً للتواصل فحسب، بل هي ملكة عجيبة تفرد بها الإنسان عن سائر المخلوقات، ليصنّع منها أداة وقالباً، تمكّننا من أن:
1- نصون ونحمي هُويتنا الثقافية والاجتماعية.
2- نحفظ وننمي ذاكرتنا الجمعية.
3- نلبي ونشبع أذواقنا الخاصة، أدباً وفناً.
(4)
وإذا اتفقنا على ما سبق، فإني أذكركم بثلاثة أشياء مختصرة:
1- نتطلع جميعاً أن نجعل من الرياضة منشطاً إنسانياً حضارياً؛ يتجاوز كونه مجرد ألعاب تُقتل فيها الأوقات، فالرياضة أسمى من ذلك وأرقى، كما غدت الرياضة أداة للتعارف فيما بين الشعوب وتكوين الصداقات والعلاقات في سياق عالمي. وينضاف إلى ذلك، تحصيل جملة من المنافع الاقتصادية عبر المشاريع التي تخلق الوظائف وتدر العوائد عبر صناعة رياضية متكاملة.
2- ثمة نبوءة لغوية أحسب أنكم تشاطرونني الجزمَ بدقتها وذكائها، وهي النبوءة التي قال بها الكاتبُ الإسبانيُ المرموقُ - الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1989 - “كاميلو خوسيه سيلا” (1916-2002م) حيث تنبأ بأن أربع لغات فقط هي التي ستكون قادرة على التلبس بسمات اللغات العالمية في سياق ثورة التقنية والاتصالات، وهي: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. مثل تلك النبوءة لها استحقاقات كبيرة، ويجب أن نكون على قدر عالمية لغتنا المجيدة، لندفع التكلفة كاملة غير منقوصة .
3- في حقيقة الأمر تعيش اللغة العربية الفصيحة تهديدات متزايدة، وقد سبق لي - في مقال سابق - الاستشهاد برأي عالم اللسانيات الدكتور عبد السلام المسدي الذي يقرر بأن “العداء الخارجي” ليس هو الأخطر على اللغة العربية، إذ الأشد خطراً وفتكاً بها هو لون من “العداء الداخلي” أو ما أسماه بـ “آلية النسف الداخلي التي تهدد اللغة العربية بالانفلات الذاتي على يد أبنائها وعلى مرأى من ساسة أبنائها” (انظر كتابه: العرب والانتحار اللغوي، ص 26). ولرياضي أن يتساءل: وما دخلنا نحن الرياضيون بتهديدات اللغة العربية رحمك الله؟ سأجيب على هذا السؤال في الجزء التالي.
(5)
أنتم أيها الرياضيون لكم شأن مع اللغة العربية، كشأن سائر الفئات الاجتماعية. وهنالك تهديدات للغة تصدر منكم أنتم على وجه التحديد. تقولون: كيف، ونحن مسالمون وطيبون؟ بالتأكيد أنكم كذلك، ولكن الكثير منكم بدأ يتساهل في استخدام الكلمات الأعجمية دونما حاجة، وغزت الساحة الإعلامية الرياضية عشرات الكلمات الأعجمية، على الرغم من وجود كلمات عربية أصلاً لتعبر عن المعنى المراد، وربما البعض يحتج بأن هنالك كلمات أعجمية جديدة جاءت من باب التقنية الحديثة، الأمر الذي يجبرنا على الخضوع لها واستخدامها.
وهنا أقول، وأنا متابع جيد ، للساحة الرياضية أننا أمام نوعين من الخروقات اللغوية في الساحة الرياضية. دعوني أعرض بشكل مبسط لهذين النوعين.
(6)
النوع الأول من الخروقات اللغوية في المشهد الرياضي يتمثل في استخدام الكلمات الأعجمية في الجانب التقني والإعلامي، دون أن يقوم الرياضيون بما يجب للحصول على ترجمات ملائمة من الجهات المعنية بالمسألة اللغوية. وتلك الكلمات الأعجمية متكاثرة جداً، وأكثرها سهل ترجمتها، ولعلي أورد بعض تلك الكلمات التي تشيع على ألسنة بعض الرياضيين، على أنني سأكتبها بحروفها اللاتينية، فالأصل أن تكتب بحروفها الأصلية “الإنجليزية” لئلا أسهم في حقن لغتنا بها. إليكم بعض الأمثلة التي تحضرني أثناء كتابة هذا المقال، وإلا فهي كثيرة:
- Mix Zone
- Focus
- Interview
(7)
النوع الثاني من الخروقات اللغوية وهو الأخطر والأشنع، ويتمثل في استخدام كلمات أعجمية وهجر كلمات عربية كنا نستخدمها لفترات طويلة في الساحة الرياضية. ولعلي أوضح المقصود بالقول بأن بعض المعلقين أو المحللين الرياضيين مالوا إلى تغليب كلمات أعجمية على حساب الكلمات العربية المستخدمة في الماضي، ولأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
- بدلاً من كلمة “ضغط” - في الهجمة مثلاً - بدأ البعض للأسف يستخدم كلمة Pressing !
- كنا لا نستخدم غير كلمة “مدرب”، أما الآن فقد أصبح البعض يتبجح باستخدام الكلمة الأعجمية Coach.
- إلى عهد قريب كان المعلقون يلتزمون باستخدام كلمة “إنهاء الهجمة”، وفي هذه الأيام بدأت آذاننا تصك بعُجمة لا مبرر لها عن طريق استخدام كلمة Finishing، ومثلها كلمة Extra timeعوض “وقت إضافي”.
- بدل كلمة “قمة” - بين النصر والهلال مثلاً - شاع استخدام كلمة Derby ، لدرجة أننا لم نعد نسمع أو نشاهد كلمة “قمة” في الساحة الإعلامية الرياضية.
وما سبق يؤكد خطورة التساهل باستخدام مثل تلك الكلمات الأعجمية، فالكلمة الأعجمية تطرد الكلمة العربية وتقضي عليها بضربة قاضية. وهذا موجع ومفجع. فكم من الكلمات العربية ستتوارى عن الأنظار وتسحق بهذا اللون من “التعدي اللغوي” “والتجاوز الثقافي”؟ ولأي شيء ندفع مثل هذه التكلفة من لغتنا وثقافتنا؟ بل ومن تفكيرنا أيضاً؟ فالكلمة الأعجمية لا تخلق شجرة أو سلسلة دلالات أو خواطر في الذهن، بعكس الكلمة العربية لأنها لغتك، ومثل تلك الشجرة أو السلسلة قد توصل إلى فكرة مفيدة في أكثر من جانب (وهذا مبحث معمق، يمكنني تناوله في مقال مستقل يعنى بمسألة اللغة والتفكير).
(8)
وأختم حديثي موجهاً رسالة خاصة للأمير نواف بن فيصل بأن يتبنى المسألة اللغوية في الفضاء الرياضي، عبر التثقيف والتوعية الفكرية لكافة الشرائح الرياضية، كما أنني أطالبه بسن تشريعات تمنع استخدام الكلمات الأعجمية في القنوات الرياضية السعودية بأي شكل كان، وأحسب أن مثل هذه التشريعات تأتي في إطار يتناغم مع ما هو مقر كمواد دستورية في نظام الحكم من كون المملكة بلد عربي إسلامي، ليس ذلك فحسب بل بكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلد (وفق ما جاء في المادة الأولى من نظام الحكم).
وبجانب مطالبتي بالتثقيف والتشريع، أثق بثقافة الأصدقاء الرياضيين، وأجزم بأنهم يحملون “غيرة لغوية” على الضاد، وثقتي هذه تجعلني أطالبهم بمراجعة “الحسابات اللغوية” والتدقيق في لغتهم الرياضية، وعدم استخدام أي كلمة أعجمية إن كان هنالك مقابل عربي لها، ومؤكد أن ثمة كلمات وكلمات. كما أنني أرجو منهم الاقتراب من اللغة العربية الفصيحة الميسرة والابتعاد عن العامية قدر المستطاع، ولنا في ذلك نماذج جميلة عديدة، فأنا أشاهد وأسمع ملتذاً للغة بعض الإعلاميين والمعلقين البلغاء أمثال “بتال القوس” و”نبيل نقشبندي”. كثرهم الله.
أيها الرياضيون النبلاء: هذه لغتكم وهويتكم وثقافتكم، فماذا أنتم صانعون بها؟ لن نعدم أبداً الأملَ فيكم، ولعلنا نرى تصحيحاً عملياً سريعاً... فلا تستخدموا غير الكلمات العربية، فأنتم تخاطبوننا، ونحن عرب مثلكم، فلمَ اللجوء إلى الأعجمية؟ ومن يأبى إلا الإيغال في استخدام الكلمات الأعجمية في حديثه وتحليله، فليوقن بأنه يجرّع لغته العربية “ملعقة سم صغيرة، ثلاث مرات يومياً” (كما في تعبير سميح القاسم)... ورحم الله رياضياً قدّر لغته وأعزها.
beraidi2@yahoo.com