كتاب الطريق إلى مكة من كتب العصر، وهو معروف، وفيه يحكي محمد أسد عن تجربته في قطار يقول: كان يجلس أمامي بدوي فتح نافذة القطار واشتري رغيفا, وبينما يهم بالجلوس لمحني أجلس أمامه فشطر رغيفه نصفين وقدم إلي نصفه في صمت فلما لاحظ ترددي ودهشتي ابتسم لي
ونطق بعبارة تفضل.. فلم أفهم معناها ولكنني شعرت أنها دعوة جادة منه لأشاركه الطعام فتناولت الخبز منه وشكرته بالانحناء.. كان هناك شخص آخر يراقب المشهد.. رجل يرتدي بدلة وعلى رأسه طربوش.. تطوع يشرح لي بإنجليزية ركيكة فقال: أنت مسافر وهو مسافر مثلك, فأنتما مشتركان في هدف واحد لذلك يريد أن يشاطرك الطعام. يعقب محمد أسد علي هذه الواقعة فيقول: يبدو لي أن حبي للشخصية العربية الذي اكتسبته فيما بعد كان متأثرا بهذاً المشهد الافتتاحي ففي المبادرة العفوية لهذا البدوي معنى عميق يلمس شغاف القلب, لقد استطاع بسلوكه الفطري أن يجتاز كل حواجز الغربة واللغة ليستشعر الصداقة الإنسانية مع رجل صحبه في رحلة عابرة, وهو يعبر عن هذا الشعور باقتسام رغيف من الخبز فيما بينهما, لقد شعرت حينها بأنني أمام روح طليقة وسلوك متحرر من القيود والأوزار. وبدأ ينبثق في عقلي فكرة أن هؤلاء الناس الذين يسكنون الصحراء لابد أنهم يدركون الحياة بطريقة مختلفة عن بقية البشر في أي مكان آخر في هذا العالم.. لابد أنهم متحررون من كثير من الهواجس المستبدة وربما متحررون أيضا من كثير من الأحلام التي تلح على عقول سكان المناطق الباردة الغنية التي يحلم أهلها بالأموال والقصور والضياع.. لابد أن هؤلاء الصحراويين لديهم معايير مختلفة للحياة وقيم مختلفة للأشياء عن بقية العالم...»
رغيف خبز من أعرابي يكسر حاجزاً حصيناً في نفس مؤدلجة يعدون صاحبها لأن يكون حاخاما في القدس، رغيف خبز يؤكد أن الدين المعاملة وأنك لا تستطيع بالقوة والتجهم والسب والشتم أن تجعل المخالف أمامك يتبعك في مشروعك ويؤمن بتفاصيله مهما كانت قوتك الجسدية والمالية، وهذا التثقيف الناعم أدركه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما تعامل مع الجفاة من كفار العرب وقريش واليهود والنصارى والمنافقين في المدينة فتبعه الصناديد وأحبه الضعفاء والعبيد {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} مما يؤكد أن العنف لا يحقق هدفاً ولا يسوغ مشروعاً مهماً كانت أهدافه نبيلة وتفاصيله مقنعة، بل إنه صلى الله عليه وسلم تجاوز البشر إلى الجمادات والحيوانات، ونص كثيراً في توجيهاته على اللين والرفق وحسن الخلق والمعاملة في صورة تفتقدها بعض الجماعات الإسلامية وبعض الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ممن يريد أن يرغم الناس على الإيمان بالمشروع بالقوة والإقلاع عن الواقع بلا أجنحة، قال القرطبي في» تفسيره»: «فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجه منبسطا طلقا مع البر والفاجر والسني والمبتدع، مداهنة أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: «فقولا له قولا لينا»، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه، وقال طلحة بن عمر قلت لعطاء: «إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل فيّ حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل، يقول الله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟».
لقد سطر لنا تاريخنا المجيد تجارب إسلامية رائعة في التثقيف الناعم، على منهج النبوة ويجب علينا أن نستفيد منها في مشروعاتنا الدعوية، ومن أجلها تضحية وأعظمها نتائج تجربة بني حضرموت في جنوب شرق آسيا حينما نجحوا في تحويل مجتمعات كاملة من الوثنية والكفر إلى مجتمعات مسلمة، وربما ينجح آخرون عن طريق ذلك التثقيف الناعم في تحويل من يرونه من المخالفين إلى الإسلام الصحيح المجرد من البدع والخرافة والغنوص الذي يعطي الإنسان المخلوق صفات الخالق كعقائد التثليث ووحدة الوجود وعقائد الحلول وعصمة الأئمة، فأهل السنة ممن ساروا على طريق السلف الصالح كالإمام أحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب يملكون أعدل قضية ولكنهم أسوأ مدافعين عنها..
أبناء حضرموت، هم أولئك القوم النبلاء الذين أوصلوا شعاع الإسلام إلى أقصى الشرق الآسيوي ليفتحوا القلوب قبل الأرض، ويتربعوا على عرش التاريخ الإنساني، ويفرضوا على الدنيا بأسرها حضارة الإسلام وأخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فحق لهم أن يفخروا -أبناء حضرموت -وحق لنا أن نفتخر بهم كمنتج إنساني حضاري يستحق التعميم، ويؤكد من جديد أنهم كانوا مهاجرين لله ورسوله في ذلك الشرق الأقصى في هجرة من أكبر الهجرات وأعظمها في التاريخ.. كما قال أمير البيان شكيب أرسلان: إن تاريخ الحضارم ومجدهم الحقيقي «خارج وطنهم»، وكان «شكيب أرسلان» ينوي تأليف كتاب بعنوان «السيل العارم في تاريخ الحضارم» قبل وفاته إيمانا بصدق الإنسانية في الشخصية الإسلامية التي أذهلت بأخلاقها وحضارتها وتمدنها شعوبا كاملة وغيرتها بعراقتها وتراثها وآمالها وآلامها، ونجحت في تحول الإسلام النظرية إلى تجربة حقيقية يلمسها الناس في شارعهم ومقهاهم وسوقهم ومجالسهم وبيعهم وشرائهم، ليسطروا تاريخاً عريقاً ليس في التجارة فحسب بل في الفكر والأدب والدعوة والفقه في البلدان التي استقروا بها إذ تذكر الويكيبيديا، الموسوعة الحرة والمصادر التي تناولت ذلك التاريخ أنهم في إندونيسيا وسنغافورا وماليزيا وغيرها من جزر شرق آسيا أصدروا عشرات المؤلفات وعشرات الصحف وعشرات المعارك الفكرية التي ألفها وأصدرها وخاضها الحضارم وقد تناولها بإنصاف الدكتور يعقوب الحجي وذلك حين ألف كتاباً ضخماً عن حياة الشيخ عبد العزيز الرشيد الذي اتصل برجال الدعوة الحضارم هناك، وزين كتابه بصور من صفحات الصحف والمجلات التي أصدروها، وقال إن الحضارم المسلمين هم رواد الحركة الأدبية الصحفية العربية في المهجر الشرقي مثلما كان الشاميون المسيحيون أصحاب الفضل في تأسيس الحركة الأدبية العربية في المهجر الغربي «أمريكا» ولكن الفرق أن أحداً لم يدرس حركة الأدب والصحافة التي أسسها العرب المسلمون في الشرق وانصبت الدراسات على ما قام به العرب المسيحيون في أمريكا... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com