الزعم بحماية الأقليات في بلدان يتعدد فيها المعتقد أو المذهب أو يتنوع العرق، هي من أكاذيب السياسة الدولية، كما أن دعوى المطالبة بتقرير مصير أقلية دينية أو عرقية في نظام دولة مستقلة أو إطار حكم ذاتي هي من قبيل الحيل السياسية،
التي تعمد لها الدول الكبرى للتدخل في الشؤون الداخلية لدول معينة، أو للحصول على امتيازات خاصة من خلال ممارسة الضغط عليها، خصوصاً الدول الغربية التي ُتمسك بتلابيب النظام الدولي وتتحكم بقراراته العالمية، كون الصين وروسيا لا تمارسان ذلك الكذب أو تلك الحيل ليس من قبيل أخلاق السياسة، ولكن مخافة انعكاسهما السلبي على ملفات ساخنة كالشيشان وداغستان بالنسبة لروسيا، وتركستان الشرقية (الإيغور) بالنسبة للصين.
أراكان الولاية المسلمة في بورما (جمهورية اتحاد ميانمار) مثال ما زال حاضراً في ذاكرة العالم (المتحضر)، مثال يفضح السياسة الغربية الدولية بشأن حقوق الإنسان، ويكشف الدجل العالمي حول نصرة الأقليات المضطهدة، خصوصاً أن الذاكرة الإعلامية ما زالت تسترجع كيف تم اقتطاع تيمور الشرقية من الأرخبيل الإندونيسي بحجة حماية المسيحيين، أو التلفيق الغربي لحروب الإبادة في إقليم دارفور بالسودان لأجل التدخل الغربي ونهب خيراته بعد معرفة ما يكتنزه من معادن نفيسة، ثم فصل جنوب السودان عن شماله بدعم مجلس الكنائس العالمي ومباركة هيئة الأمم، أو القضاء على بقايا الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية ما نتج عنه ولادة كوسوفا!، كما تختزن هذه الذاكرة التجاهل الدولي التام لسنوات الكفاح طلباً للاستقلال لكل من كشمير والشيشان والأيغور ومورو الفلبيني وأبخازيا.
أراكان اليوم لا تحتاج للجان تقصي حقائق لأن صور المذابح، التي طالت مسلمي ميانمار تغطي شاشات الإعلام وتملأ صحف الدنيا، كما لا يحتاج المسلمون هناك لمراقبين دوليين يكونون شهود زور على فصول المذبحة، فهي ليست وليدة اليوم إنما حلقة في مسلسل الاضطهاد الديني الطويل، الذي بدأ في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي في عهد الملك البوذي باينوانغ، وما قام به من منع الذبح الحلال، ومنع الاحتفال بعيد الأضحى، وإجبار المسلمين على استماع الخطب البوذية لخلع الإسلام، مع مراعاة أن الإسلام دخل بورما عن طريق التجار المسلمين في القرن السابع الميلادي (القرنان الأول والثاني الهجريين)، ومع تزايد المسلمين عبر القرون تركزوا في أراكان (راخين)، وقد كانت دولة مستقلة حتى قام الملك البوذي بوداباي باحتلالها وضمها لمملكة بورما خلال القرن الثامن عشر الميلادي، ثم مارس مثل غيره اضطهاد المسلمين وتدمير دور عبادتهم وملاحقة علمائهم.
غير أن أشهر المذابح التي حلت بالمسلمين كانت عام 1942م، أبان الحقبة الاستعمارية البريطانية لأراضي بورما خلال الفترة (1886 ـ 1948م)، ذلك أن بورما استقلت جغرافياً عن حكومة الهند البريطانية عام 1937م، وبقيت تتبعها سياسياً، وبمعاونة اليابانيين حاول ثوار بورما من بوذيين ومسلمين استغلال انشغال بريطانيا بالحرب العالمية والاستقلال عنها، وقد كان مسلمو بورما من أشد الثوار على الاستعمار البريطاني، ما جعل بريطانيا تعمل على ضرب الثوار ببعضهم وإيقاع الفتنة بينهم، وكون المسلمين هم الأقلية فقد قامت بمصادرة أراضيهم ومنحها للبوذيين، وإغلاق المعاهد والمدارس والمحاكم الشرعية، وطرد المسلمين من وظائفهم وإحلال البوذيين مكانهم، وزج قادتهم بالسجون، ثم قامت بتسليح البوذيين وتحريضهم على المسلمين من منطلقات دينية وعرقية فكانت مذبحة عام 1942م من قبل البوذيين الماغ وبمساعدة البوذيين البورمان وتحت أنظار المستعمر البريطاني، وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية بقيت بورما مستعمرة بريطانية، إلا أنها حصلت على استقلالها عام 1948م، واليوم ُتحكم بمجلس عسكري قام بانقلابه عام 1988م، وتعرف باسم (جمهورية اتحاد ميانمار). ويبلغ تعدادها 50 مليون نسمة، يمثل المسلمون فيهم 15%، وإن كانت بعض المصادر تزعم أنهم 4%. كذلك تعرض مسلمو بورما للطرد والإبعاد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كما تعرضوا لأعمال عنف في عامي 1997م 2001م.
واليوم يتعرض مسلمو بورما وتحديداً أراكان ذات الأغلبية المسلمة لمذبحة مروعة أمام أنظار العالم، الذي لم يتحرك أو يقوم بخطوات حماية حقيقية، بل ترك الأمر لحكومة المجلس العسكري، التي لم تتخذ إجراءات فعلية لمنع الجماعات البوذية المتطرفة وبالذات (الماغ) عن ممارسة التقتيل بالمسلمين، تحت أكذوبة اغتصاب فتاة بوذية من بعض المسلمين، لأن السبب الحقيقي كان حقد البوذيين (الماغ) من قرار السلطات البورمية منح المسلمين (الروهنجين) حق المواطنة، وهو ما يؤثر على نسبة التصويت في ولاية أراكان لصالح المسلمين (الروهنجين) مقابل البوذيين (الماغ)، كون المسلمون هم الأغلبية في الولاية، فحسب النظام الديمقراطي البورمي، فإن لولاية أراكان 46 مقعداً في البرلمان، ففي السابق استحوذ الماغ على 43 مقعداً بينما المسلمون على ثلاثة مقاعد، ومع حق المواطنة ستغير الواقع لصالح المسلمين.
لذلك يحتاج مسلمو بورما وبالذات في أراكان من المجتمع الدولي إجبار الحكومة العسكرية البورمية على حماية المسلمين أولاً وبشكل يمنع تكرار تلك الجرائم المروعة.
kanaan999@hotmail.comتويتر @moh_alkanaan