بيتر ساذرلاند:
إن أوروبا تواجه مأزقاً خطيراً فيما يتصل بالهجرة. والآن أصبح ساسة التيار الرئيسي رهينة الأحزاب الكارهة للأجانب، حتى أنهم يتبنون خطاباً معادياً للأجانب سعياً إلى إقناع واستمالة جماهير الناس المتخوفين، في حين أصبح المولودون في الخارج مهمشين على نحو متزايد في المدارس، والمدن، وأماكن العمل. ولكن على الرغم من ارتفاع معدلات البطالة في أغلب أنحاء القارة، فإن العديد من أرباب العمل يفتقرون إلى العمال الذين يحتاجون إليهم. فهناك عجز في المهندسين والأطباء والممرضات؛ وكذلك عمال المزارع والمساعدين الصحيين. ولن تحظى أوروبا أبداً بالعدد الكافي من رجال الأعمال، الذين تدفع أفكارهم الاقتصاد وتخلق فرص العمل.
الواقع أن التشكك السائد حول الهجرة ليس بلا أساس بالكامل. فالعديد من المجتمعات تعاني من استقطاب حقيقي، الأمر الذي يجعل الأوربيين مهمومين وقلقين بدرجة مفهومة. ولكن إلقاء اللوم عن هذا على المهاجرين خطأ كبير، ويؤدي إلى تفاقم المشكلة. ونحن جميعاً نستحق اللوم.
فبسبب تنصلنا من المسؤولية، سمحنا للهجرة بالتحول إلى كبش فداء لمجموعة من المشاكل الأخرى غير المتصلة بالهجرة. وفي أغلب الأحيان يأتي التعبير عن الشعور الدائم بانعدام الأمان نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية، والمناقشات السياسية حول وجود أوروبا، وصعود القوى الناشئة، في هيئة ردود أفعال معادية للمهاجرين. وهذا ليس ظلماً فحسب، بل إنه يصرف انتباهنا عن ضرورة إيجاد الحلول للمشاكل الحقيقية.
ويتعين على الدول الأوروبية أن تعترف أخيراً وبكل صراحة بأنها، مثلها في ذلك كمثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أرض للمهاجرين. إن نسبة السكان المولودين في الخارج في العديد من الدول الأوروبية - بما في ذلك إسبانيا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وهولندا، واليونان - مماثلة لنظيرتها في الولايات المتحدة.
ولكننا على الرغم من هذا لا نقوم بالاستثمارات اللازمة لدمج القادمين الجدد في مدارسنا وأماكن العمل لدينا. كما لم نفعل ما فيه الكفاية لإعادة تشكيل مؤسساتنا العامة بحيث تصبح أكثر شمولاً واستجابة لمجتمعاتنا التي تتسم بالتنوع. والقضية هنا ليست كم عدد المهاجرين الجدد الذين يُقبَلون في الاتحاد الأوروبي، بل الاعتراف بطبيعة وتركيبة المجتمعات التي نعيش فيها بالفعل.
ومن عجيب المفارقات - والخطير - أن ترتفع المشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا لتبلغ ذروتها في وقت حيث تعمل التغيرات البنيوية العالمية على تحويل تدفقات الهجرة بشكل جذري. ويتلخص التحول الأكثر أهمية في نشوء أقطاب جذب جديدة. فرجال الأعمال، والمهاجرون الذين يحملون درجات الدكتوراه، وهؤلاء الذين تحركهم ببساطة الرغبة في تحسين حياتهم يتدفقون على أماكن مثل البرازيل، وجنوب إفريقيا، وإندونيسيا، والمكسيك، والصين، والهند. وفي العقود المقبلة، سوف يجري أغلب النمو في تدفقات الهجرة في جنوب الكرة الأرضية. فلم يعد الغرب الأرض الموعودة، الأمر الذي يفرض خطورة بالغة على قدرة أوروبا على المنافسة على الصعيد العالمي.
إن الشيخوخة السكانية في أوروبا غير مسبوقة تاريخيا. وسوف تنحدر أعداد العمال بسرعة كبيرة، وقد تتقلص بمقدار الثلث تقريباً بحلول منتصف هذا القرن، وسوف يكون ذلك مصحوباً بعواقب وخيمة على النموذج الاجتماعي في أوروبا، وحيوية مدنها، وقدرتها على الإبداع والمنافسة، والعلاقات بين الأجيال، حيث يصبح المسنون معتمدين بشدة على الشباب. وفي حين يؤكد التاريخ أن الدول التي ترحب بطاقات القادمين الجدد وحيويتهم تصبح أكثر قدرة على المنافسة على المستوى الدولي، فإن أوروبا تسلك المسار العكسي بتشديد القيود على حدودها.
ولكن هذا لا يعني ضياع كل شيء. فقد وضعت أوروبا نفسها في هذا الموقف من خلال الجمع بين التقاعس عن العمل ووضع السياسات القصيرة النظر. وهذا من شأنه أن يترك مجالاً كبيراً للتحسين. بل وهناك في واقع الأمر بصيص من الأمل في أركان بعينها من أوروبا.
ولنتأمل هنا على سبيل المثال بلد كالسويد، التي حولت سياسة الهجرة لديها من خلال السماح لأرباب العمل بتحديد العمال المهاجرين الذين يحتاجون إليهم (وتشتمل هذه السياسة على ضمانات لإعطاء الأفضلية للسويديين ومواطني الاتحاد الأوروبي). وإذا احتكمنا إلى العقل فسوف يتبين لنا أن هذه الإصلاحات سوف تكون موضع حسد في أوروبا، وبخاصة في ضوء المرونة النسبية التي يتمتع بها الاقتصاد السويدي. ومن المؤكد أن هذه الإصلاحات جذبت اهتمام بلدان مثل أستراليا وكندا، التي تسعى إلى محاكاتها.
كما اشتمل الأمر على إبداعات في مجال دمج المهاجرين. والواقع أن بعض المبادرات، ولو أنها متواضعة، تشجع هؤلاء من أصول مهاجرة على طلب وظائف في القطاع العام وقوات الشرطة، وإدارات مكافحة الحرائق، ووسائل الإعلام، وما إلى ذلك. ومثل هذه التدابير تستجيب أيضاً للحاجة الملحة لمؤسسات عامة تبدو مماثلة للسكان الذين تخدمهم.
وهناك العديد من الأدوات الأخرى الكفيلة بتعزيز هذا النوع من الدمج. ونحن ندرك تمام الإدراك أهمية التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، وأي نوع من البرامج قادر على سد الفجوة بين أطفال المواطنين الأصليين والمواطنين المهاجرين. كما ندرك بنفس القدر أهمية العثور على وظيفة في عملية الدمج. ونحن نعرف كيف نتعرف على مهارات المهاجرين بشكل أفضل، وكيف نوفر النوع الصحيح من التدريب المهني. كما نعرف كيف نتجنب التمييز في التوظيف.
ولكن رغم أننا نعرف ماذا يتعين علينا أن نفعل، فنحن الآن في احتياج إلى حشد الإرادة السياسية اللازمة للقيام بهذا. والنبأ السار هنا هو أننا إذا أدرنا عملية الدمج بنجاح، فسوف تزداد احتمالات نجاحنا في إقناع جماهير الناس واكتساب تأييدهم لسياسات أكثر انفتاحاً في التعامل مع الهجرة.
وعلى نفس القدر من الأهمية يأتي التعاون الدولي في مجال الهجرة. في العام الماضي، وأثناء اندلاع الثورات العربية، أهدر الاتحاد الأوروبي فرصة تاريخية للبدء في نسج ضفتي البحر الأبيض المتوسط معا. فقد فشل في فتح أبوابه أمام الطلاب الشباب، ورجال الأعمال، وغيرهم من مواطني شمال إفريقيا. واليوم، يبذل الاتحاد الأوروبي جهوداً أكثر جدية لإشراك دول الجوار في الجنوب. ومن بين الفرص المحتملة اتفاقيات التجارة الحرة، وتخفيف شروط الحصول على التأشيرات لطلاب الجامعات، وبرامج العمل المؤقت، وتقديم الحوافز لجذب رجال الأعمال.
الواقع أن أي دولة من غير الممكن أن تصبح جزية معزولة عندما يتعلق الأمر بالهجرة، ولن تستطيع أي دولة أن تعالج قضية الهجرة بمفردها. ولا يزال الطريق طويل أمامنا، وربما في مناخ لن يصبح مواتياً للهجرة قبل عدة سنوات. وسوف يتوقف قدر التقدم الذي يمكننا إحرازه على قدرتنا على كسر الأساطير المحيطة بالهجرة.
إن الهجرة تتغير جوهرياً على أكثر من نحو، ويتعين علينا أن نستمر في دفع أنفسنا نحو ابتكار أنظمة ومناهج تستجيب للواقع الجديد. وإذا نجحنا فإن قدرة الإنسان على التنقل من الممكن أن تصبح واحدة من أعظم أصول القرن الحادي والعشرين.
سيسيليا مالمستروم - خاص بـ(الجزيرة)
(*) بيتر ساذرلاند رئيس مجلس إدارة غولدمان ساكس الدولية ومدرسة لندن للاقتصاد، وممثل الأمم المتحدة الخاص لشؤون الهجرة والتنمية، وكان مديراً عاماً لمنظمة التجارة العالمية، ومفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون المنافسة، والنائب العام لأيرلندا.
(*) سيسيليا مالمستروم مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية، وكانت وزيرة شؤون أوروبا في السويد.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2012