إذا كانت ثقافة الإسلام ترسم للإنسان خطَّ الاعتدال والنّهج المتّزن في كلِّ أمر من أمور حياته، فلا إسراف ولا تبذير كما لا شحَ ولا تقتير، فإننا وللأسف الشديد وفي ظل واقع سلبي منافٍ لجوهر شهر رمضان الكريم، المتمثّل في تنمية الرصيد الروحاني بالإقبال على الله والانشغال بطاعته، نحوِّل أيام هذا الشهر الفضيل من شهرٍ للزُّهد والتأمُّل الروحي ومراجعة للنفس، إلى شهرٍ كرنفالي باذخٍ ساذج، من سلوكيات خاطئة لا تتناسب وروحانية هذا الشهر الفضيل، ومعانيه الجليلة وقيمه الرفيعة.
المغالاة.. الإسراف والتبذير.. التّرف والمباهاة بالسُفرة الرمضانية والموائد المفتوحة، بما يعتليها من أصناف الأطعمة والتي كثيراً ما تجد طريقها في نهاية الأمر إلى صناديق النفايات.. هي أبرز هذه السلوكيات والمفاهيم الخاطئة التي نعاني منها في مجتمعنا.. ورغم أننا جميعاً ندرك بأنها سلوكيات خاطئة تترك آثاراً سلبية على اقتصاديات الأُسر، مهما كان مستوى الوضع المادي لها، إلاّ أنّ الإصرار على التمسُّك بها كمظهر احتفائي ونمطٍ مغاير عن بقية شهور العام، جعلنا نتعمّد التناسي بأنها من أسوأ السلوكيات التي تعكس مظهراً من مظاهر عادات الشّره الاستهلاكي والإسراف التنافسي، في تجهيز الموائد الرمضانية والسُّفر العامرة بأصناف الأطعمة المختلفة والمتنوّعة... أضف إلى ذلك ما يتم جلبُه من المطاعم التي من كثرتها وتعدُّدها أصبحت تنافس عدد السكان.
أطباق متعدّدة ومتنوّعة مما لذّ وطاب!! ولكن أكاد أجزم بأنّ الجزء الأكبر منها لا يُمس مسّة إصبع للتذوّق فقط.. فنظرة إليه تُغني لأنها تُشعرك بالشّبع وبعدها يأخذ طريقه للحفظ أياماً ثم لا مكان له سوى صناديق القمامة !!! [كرّم الله النعم ] .
ما يثير في النفس المرارة والألم والخوف من العقوبة، هو تضاعف حجم النفايات الغذائية في شهر رمضان المبارك، بدرجة تؤكد أننا مجتمعٌ باذخٌ مسرفٌ بامتياز. ورغم تفشّي هذه الظاهرة واستفحالها في أكثر المجتمعات الإسلامية، بشكلٍ يتعارض مع مضامين هذا الشهر الفضيل، إلاّ أني أشك أنّ هناك من ينافس المجتمع السعودي في استشراء سلوكيات الإسراف وزيادة المبالغة في التبذير والتفنّن ببذخٍ يستنزف الجيوب ويقصم ظهرَ ميزانية الأُسر.
هذا هو واقع حالنا وكأننا نعيش ليومنا فقط .. نحن مجتمع لا ينقصنا الوعي ولا ينقصنا الإدراك .. ولكن نفتقد [الكيفية] كيف ننظم..؟ كيف نُقنِن..؟ كيف نؤدلج حياتنا المعيشية ضمن حدود إمكانياتنا المادية فلا ضرر ولا إضرار خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المستوى الاقتصادي والمعيشي لمختلف طبقات المجتمع.
فإذا كان شهر رمضان هو شهر الطاعة والعبادة والتقرُّب إلى الله.. شهر تغذية الروح والنفس بالنفحات الإيمانية.. شهر مشاطرة الفقراء معاناتهم والمحتاجين حاجتهم.. والجوعى جوعهم والظمأى ظمأهم فمن المؤسف حقاً أن تطغى مفاهيم وسلوكيات خاطئة على عقولنا وتترافق معنا في شهر فضيل، فنجنح باندفاعٍ شره نحو إنفاق لا ضابط له.. وتبذيرٍ وإسرافٍ غيرِ عقلاني في إعداد الموائد الغذائية والتنوُّع في أصناف أطباقها بأشكال وكميات تُقوِض مفهوم التوازن الغذائي السليم وتُشِل اقتصاد الأُسر.. وتُرهِق جيوبَ محدودي الدخل لتقليد ومسايرة كل من أصابته حمى الاستهلاك المنفلت، ناهيك عن الرغبة المتأجّجة لتلبية دواعي الاستعراض الاجتماعي رغم محدودية الدخل وارتفاع الأسعار.
سلوك استهلاكي غير مسبوق يشهده البيت السعودي في شهر رمضان المبارك.. وتوجه محموم نحو الشراء وزيادة في إنفاق قد يصل إلى حد الاستدانة... ودعايات وإعلانات وراء إغراءات الشراء... وركض وراء تسوّق واستهلاك يعصف بميزانية الأُسر لينتهي المصير إلى صناديق النفايات!!!!
ليتنا نعوّد أنفسنا ونحن نعيش روحانيات هذا الشهر الفضيل على التخلُّص من كل السلوكيات التي تشوّه صور معانيه الجميلة وقيمه النبيلة.. وأن نجعل موائدَنا الرمضانية موائدَ عامرة بالمحبة والألفة تجسِّدها علاقات التواصل والتراحم والتعاون بين بعضنا البعض.. فرمضان بأيامه المشرقة ونسائمه الإيمانية لايزال يحمل لنا في كل عام ألواناً من الخير والبركة... ولايزال كثير من المسلمين ممن أصابهم قلة وشح هم أجود ما يكونون في رمضان.
zakia-hj1@hotmail.com