مع كتاب فيصل أكرم: (سيف بن أعطى)** سنعثر على التيمات التي تحرك أولويات الشاعر مع سيرته؛ ولأن الأحداث جرت في زمن سابق سيعمل على انتقاء الدال منها على وجه سردي قبل أن يرتمي في المستقبل الذي سيجسده الشعر؛ هكذا لن يحتاج «أحدٌ ليوميات، حيث لا أقرأ سوى الماضي» (ص 117) بل سيجده في تتمة العمل يرتمي في أحضان القصيدة؛ وعلى هذا الترتيب جاء النص الذي يفحص نهاية الحكاية الأولية والمراهنة على المستقبل الذي ينتظر الشعر..
السيرة التي تتشكل من النصوص تقدم لنا صورة طفل يريد أن يستأثر بكل حب أمه لكن نصيبه لن يزيد على واحد من تسعة وإذا لم ننس الأب سيتقلص إلى العشر، لذا حين دخل المستشفى بالرغم من الكسر والألم سيجد أيامه فيه تعويضية لأنه أشبع شغفه بانفراده بها دون زحام إخوته. وكان سيف يشب ويتدرج لأن في الأمر نوعا من التقدم والانتصار أيضا، ولو وجد نفسه في خيبة لأن لا أحد سيشاركه فرحة النجاح، فيما الأهم هو ما استتبع ذلك من اكتشافات فهم العالم الخارجي الذي سيغري بخروج عظيم إليه (ص29)، لن يزيد عن ضياع أول؛ لكن الولادات الجريئة لا تأتي من غير مخاضات عسيرة؛ لا أتكلم عن الشكل الميكانيكي وإنما هذا الذي يلقي بك في الحياة وعليك المقاومة لاتقاء شر العالم؛ يكون الابن حاراً إذ لم يكن يقبل ما يمد له من هدايا؛ ثمة أنفة تمنعه من مد اليد فلا يقبل إلا ما يبلغه بالعمل المجهد حتى يستحق أجره؛ لكن فيما يبدو أن هذه التعلمات باتت لا تثير طفلاً فالكل ينتظر العيديات التي باتت شاهدا على مرض العصر باستثناء سيف الذي لا يرضى بتسلم شيء وحين يتنازل فمن أمه جاءه؛ وحتى حين كان العطش يستبد به وشقق حنجرته فضّل أخذ قطعة ثلج ملقاة على التراب من أن يتقدم إلى غريب كي يرويه بعد أن قادته مشاركة أخيه لعبة (مكشوف) التي تقوم على أن يغمض الواحد عينيه ليمكن الآخرين من الاختباء قبل الشروع في الكشف عنهم بإجراء عملية التفتيش، وهذه اللعبة عند أهالي شمال إفريقيا يتفق على تسميتها ب (تين ئفري) أي التي تخص الاختباء كما يوفرها قاموس اللغة الأمازيغية، وليس باللحن الذي يسمها في الدارجة التي تنطقها ب (دينيفري)، والذي يفتح الطريق لطمس كل معالم الثقافة الأمازيغية..
ما يهم أن سيفاً، حين ضاع في صحراء لاهبة، باغتته كلاب في لحظة ما، لكنه وهو الذي في سنته السادسة سينطق بكلام قديم في الحكمة، بالرغم من البراءة: «أنا الناجح بترتيب الأول، لن أخاف من كلاب فاشلة» (ص36)، وهذه الشجاعة اختبار للخوف الذي هاجمه ولم ينل منه؛ لقد كان يعشق العالم ويكره العدم، لذلك بكى لضياع أشياء صغيرة، وأما ضياعه هو فقد كان عدماً يستحق المواجهة.. فلا يمكن فهم حياة سيف في عمل فيصل أكرم من غير المواجهات التي اعترضته، ليكون الرجل الذي يريد.. لقد منع من ركوب الطائرة إلا بعد أن جلب معه موافقة أخيه لأنه قاصر. وهكذا سيكون هو مجموع مآسيه الخاصة التي خبرها في دنياه؛ وسنجدنا مع سيف أمام شخص يشق طريقه بعناد حار إلى حد قبوله معانقة الموت حال وقوع الطائرة التي يمتطيها من غير طموح للبحث عن مخرج، أو حالة تشبثه بتقديم ملفه إلى مسئول المتوسطة وهو ملطخ بدماء نزفت منه بفعل أسياخ حديدية علقت بجسمه النحيل جراء اصطدامه بها (ص49)، الحياة مع سيف لم تكن سخية كفاية، وكان عليه أن يكدح كي يشبع احتياجاته، بالعمل في مهن متعددة، وبذلك تحصن من آفة العوز «لم أعتد أن أقول لأبي أعطني» (ص84)، إنها اختبارات قاسحة - صلبة بعدم اعتمادها التواكل أو الأمل في وهم ما، وهو ما يذكر بالمغنية القبائلية (ئديث بياف) حين أشعلت النار في ذكريات الماضي والمستقبل، وسيف حين يقول : «أنا.. لا مستقبل لي، لا أنتظر شيئا من أحد، ولا أحد ينتظر شيئاً مني» (ص85)
الزمن في كتاب أكرم يسير تصاعديا سوى أن الأحداث المنتقاة والتي ستشكل لحمة القص تتسم بالليونة بمعنى انه يعتمد الخطوات الواسعة لقياس الزمن دون أن يمنعه ذلك من القيام باستعاداته، نحو حديثه عن فعل التضحية الذي قاده للسجن في مكة والذي لن يذكره إلا وهو في زيارة للقاهرة، لكن تبقى غصة في حلقه مادام السجن والتعذيب يجعل الحياة مستحيلة وجزءا من معيشه لفترة في عمره..
* * *
«الشعر هو لغة الوظيفة الجمالية» التي ستتكفل بقول القلق الذي يعتمر دواخل الشاعر في: (ولي دونكم أهلون)، التي تعد لحظة دفع الحساب باستخلاص الضائع من الباقي من المجموع الهزيل لكون الحياة المستحيلة تتقدم بالسقوط والموت والجلد؛ ليبدو أن قدر الشاعر هو العزلة والتوحد، وأما الحشود فالتعلق بها تعليق للذات كي لا تنطلق أو تزدهر.
الانطلاقات الخطأ كثيرة، لذا يتحتم التراجع للتخلص من الثقل أو الإرث حتى لو قاد الأمر إلى الارتطام بالجدار، لكون الأساسي هو الحفاظ على وحدتك، هكذا نقرأ: «لكنهم قذفوك وحدكـ - كالرصاصة حين يكسرها الجدار» (ص12 4) كمتوالية إيجابية، وبأقل تكلفة أو جهد كالذي يفترض فيك للقيام بالمهمة نفسها...
لقد كانت مداخل الفصل الأول أكثر صدقاً، وأخذت مجمل الكتاب، وهذا سيجعل منها منهكة بطولها، كي يستطيع نص من ست صفحات، أن يغني عنها، فوجب التحذير من الصدق الذي استفاد من السلطة كي توجد له تلك الصورة، ومع ذلك بات غير معفي من الشبهة، وكان التنبيه:
(ستغدرك الأرضُ
إن لم يكن لكَ دربٌ إليها..)
تروم نصوص أكرم إلى تفكيك بعض الصور النمطية التي تم تسلمها في مرحلة لكفاية ما، عمد إلى إعلائها استنادا على استبداد ما، قبل أن تتضح أنها استبداد زائف، لا يستقيم إلا بتوالد الاختلالات في مكامن الاستبداد، حيث كل شيء يسير بمشيئة المنع والجلد، لتظهر الاستقامة هي النظام العام. ويحدث تمرد تعم معه الفوضى، لعدة أيام، بسبب خروج جماعة مسلحة للهجوم على مكان يزوره المسلمون..
النبش الآخر سيخص مصر الثقافة، من خلال حدث، هناك من سيقول معزولا، لكن لا بأس به، في الكشف عن تناقض كاد أن ينتهي بفسخ خطوبة، بين أنثى مثقفة (دعاء) وذكر لم ينه تحصيله العلمي (فهد) وجوهر الخلاف سيكون أن الرجل يعيش دونية ما، مع خطيبته المثقفة، فهو عاجز عن مسايرتها في أي نقاش تفتحه معه، والمثير كان طلبه مساعدة الضيف (سيف) للنيل ولو مرة من أهل البيت، وفشل مع ذلك لأن في الأمر استعراضاً لا غير، وهنا بات على سيف الهروب حتى لا يساهم في شتات أسرة، يقال مقدسة، ولو لم تتوفر على حد أدنى من الانسجام، مانحا بذلك حلاًّ على طريقته، ريثما يستعد المجتمع لاسترجاع بعض مما يجعل منه حيا وموجودا، أي الخروج من حالة اللا تواصل والنزول إلى ميدان التحرير، وهو التواصل الذي صار مرهونا بيد العسكر أو الغرق في حوض (الجماعة).
وحده الشاعر يختار الكشف عن خلل مقزز يقوم على فرض وإلزام الكل على قول وتفكير ما يتم إملاؤه [فرنسيس بونج] إلا أن هذا الخلل المقزز، كما في بلد سوريا، التي سيحط بها الشاعر، يقع التحايل عليه، إذ سيسهل على سيف الوقوع ضحية هذا المكر الذي يسلك في مجتمعات الرقابة والديكتاتورية الرسمية، فيفقد كل نقوده وأشيائه، وكذا الصورة الوحيدة التي يحفظها لأمه، لمجرد أن أخذ حقنة (بنج) لتهدئة آلامه، الأمر الذي تحول خرافة على أيامنا هذه، لأن الرئيس، لكي يهدئ الوضع في سوريا، سيشغل كل ترسانته الحربية لمعالجة الانتفاضة التي نزفت طويلا..
* باحث ومترجم من المغرب
** (سيف بن أعطى) لفيصل أكرم، دار الفارابي 2007
askkarevue@gmail.com