يخلط كثير من الناس بين ما اعتادت المجتمعات والمنظرون على تسميته «الأخلاق»، وما يألفه في محيطه القريب، ويجده مقبولاً لدى المرجعيات ونماذج القدوة التي يقتنع بها. فالأخلاق لا يوجد لها قوانين تضبطها لا قديماً ولا حديثاً، وكذلك الأمر مع الأعراف والتقاليد. فأين تفترق التقاليد عن الأخلاق؟
أظن التفلسف ضرورياً في مثل هذه التصنيفات. فالتقاليد هي أفعال مؤطرة اجتماعياً، وتجري ممارستها عملياً في مجتمع، أو ثقافة بعينها؛ أما الأخلاق فهي شيء غير مطبق على الإطلاق، بل هي حدود صورية لقيم مثالية؛ يجري حتى تحديد المثالي فيها برؤية غير واقعية. فالصدق على سبيل المثال من قيم الأخلاق، لكن قليلاً من الناس، إن لم يكن نادراً منهم، يطبقه في كل مواقفه المختلفة. أما التقاليد، فيوجد كثير من المحافظين يطبقونها، أو لا يطمئنون إلا في حالة هيمنة تلك القيم. فهي واقع يمكن قياسه؛ خلافاً للأخلاق التي يكون تركيز المجتمعات فيها مبنية على مرجعيات نظرية بحتة.
ويكاد يكون تركيز الشرقيين في فهم الأخلاق على قضايا الجنس والمرأة على وجه الخصوص، وهو أمر يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن منظومة الأخلاق أوسع كثيراً من أن تنحصر في هذا الجانب. فأين الحقوق والواجبات تجاه أفراد الأسرة، وخاصة الأطفال وكبار السن، وأطر تعاون الفرد في مؤسسات الدولة، وإسهامه في مؤسسات المجتمع المدني، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وصدق المرء وإخلاصه في عمله، وحبه للناس في مجتمعه وفي المجتمعات الأخرى... إلخ. كل تلك مقومات تدخل ضمن تقويم الأخلاق. فلماذا تغيب كل هذه الجوانب عن أطر الأخلاق؟ بل إن الأخطاء أو الاعتداءات الجنسية أصبح يطلق عليها اعتداءات لا أخلاقية، وكأن الأخلاق قد تركزت في هذا الجانب بمفرده.
فما الذي يؤطر ما هو أخلاقي عما ليس أخلاقياً؟ يوجد في الثقافة النجدية مصطلح يشير إلى من يتخلى عن قبول ما تعارف الناس على قبوله وهو «قاطع جادة». لكن هل قاطع الجادة مخترق للقواعد الأخلاقية؟ كما يوجد مثل يشير إلى من يستهتر بأعراف الناس دون أن يخجل، وهو: «شين وقوي عين»! لكن الأعراف مرة أخرى لا تلتقي دائماً مع القيم الأخلاقية.
طرحت هذه التساؤلات بعد أن رأيت مع أفراد أسرتي أحد من يمكن أن نسميه بالمصطلح النجدي المذكور أعلاه «قاطع جادة» في أحد قطارات لندن؛ يعترض على شاب قد وضع على أذنيه سماعات يسمع من خلالها شيئاً من الموسيقى من آي بود. وكانت حجته أنه عال، بينما نحن نقع أقرب إلى الشاب منه، ولم نسمع منه شيئاً سوى طنين ضعيف جداً عندما يهدأ صوت القطار ويسكت الناس جميعاً. وقد استجاب ذلك الشاب إلى هذا الطلب، ثم قام أيضاً من مكانه ليقف عند الباب.
وأجد الأمر عجيباً عندما أقارن تلك الاستجابة السريعة مع مطلب غريب بما يحدث لدينا في عدم الاستجابة مطلقاً، أو الرد بتبرم مع مطالب مشروعة؛ بالتنبيه على سبيل المثال على أن ذلك السلوك ممنوع في مكان أو زمان بعينه. كما تأتي السخرية والانتقال إلى الخصومة الشخصية والاتهام باللقافة أو التدخل فيما لا يعني المرء المنبه إلى ذلك الأمر المحظور.
فهل كل القوانين أخلاقية، أو كل الأخلاق قانونية؟ أم إن القانون تنظيم والأخلاق ثقافة؟ هذا يذكرني بما يلجأ إليه الشباب المتزوجون حديثاً بعد ليلتهم الأولى (ربما كان هذا في زمان مضى)، عندما يتفاجأ بشكل زوجته غير المرضي أو شيئاً لم يعجبه فيها. وبعد أن يسأله رفاقه عن النتيجة، يقول: أهم شيء الأخلاق!
الرياض