أسوأُ ما في كتاب: (الله والإنسان) لكاتبته الراهبة الإنجليزية كارين آر مسترونغ سابقاً ــ وكلُّه سيِّئٌ ــ الفصلُ الحادي عشر، ولقد جعلتْ فاتحتَه مخاوفَ البشرية اليوم ابتداءً بالنظام العالمي الذي يُهدِّد بمسح الحياة البشرية بأسلحة
الدمار.. ثم الكوارثِ البيئية كفيروس الإيدز، ثم ازدحامِ المعمورة؛ فتنبأت خلال ثلاثة أجيال أن يكون سكان الأرض أكبر من قدرتها!!.. وَبَنَتْ على هذه المخاوف أن الإيمان بالله لن يصمد؛ لأن هذا العصر ليس باستطاعته أن يَعَدَّ حقيقة الإيمان عُدَّةً تُلَبِّي مطالبَ هذا العصر؛ فتنقذه من المخاوف مشيرةً إلى أن معنى الإيمان بالله في الماضي يُعَدَّل باستمرار (مع أن الإيمان ضرورة عقل وحس؛ وبهذا لا يكون الإلحاد حرية سلوك مشروعة)!!.. أي ليبقى باب الرجاء مفتوحاً، وهو الآن مُغْلق، واستشهدتْ بكلمة للكاتب الأمريكي (بيتر بيرغر) موجزها: أن وعي مفكري هذا العصر نعمة لا شائبة فيها، وهذا الوعي: أن الإلحاد شرط لا رجعةَ فيه للبشرية في هذا العصر العملي!.. ثم اقتبستْ من الوجوديين كسارتر ومن غير الوجوديين أن الإلحاد شرط لممارستنا حريتنا الفعَّالة!!.. وأكتفي الآن بهذا الموجز.
قال أبو عبدالرحمن: هذا العرض نموذج للاعتداء على العقل الإنساني المشترك، وهو اعتداءٌ على براهين الآفاق والأنفس التي منها العلم المادي الحاضر.. ولا يَشُكُّ أحد في علميَّته؛ فهذا الاعتداءُ مصادرةٌ لبرهان الأسباب والبواعث بظواهرَ كونية مُـجَرَّدَةٍ من التعليل العلمي؛ لهذا أحتاج إلى وقفات:
الوقفة الأولى: أنَّ الكاتبة دارسةٌ الأديانَ دراسةً مقارِنة وإن كانت سطحية عن الإسلام مع إكبارها له.
والوقفة الثانية: أنها مُقِرَّة بأن الإسلام إذا حصل اتِّباعه فمُتَّبعوه أَبْعَدُ الأمم عن الإخلال بقدسية الله كمالاً وتنزيهاً، وأَبْعَدُ عن اتِهام ما جاء عن الرب سبحانه وتعالى من الدين عن الطعن في صدق أخباره وعدل أحكامه، وأَبْعَدُهم عن القدح في رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ولهذا الإقرار نتيجة تأتي إن شاء الله.
والوقفة الثالثة: أنَّ فَهْمَ الإسلام لا يكون إلا من نصوصه الموثَّقة ثبوتاً ودلالةً، وليس فهمه من سلوك بعض المسلمين؛ فَيُعْلَمُ مَن هو أتبع للإسلام بموافقته القطعي والرجحاني من مصادره.
والوقفة الرابعة ــ وهي نتيجة للوقفتين السابقتين ــ: أنَّ الإصغاء إلى براهين المؤمن وفهمها ومناقشتها يكون قبل الإصغاء لدعوى المشكِّك؛ وما دام الأمر كذلك فلا بد أنْ تكون البداية مِن الإسلام نفسه ما دام عندها بالصفة المذكورة في الوقفة الثانية؛ فلعلها تجد تفسير تلك المخاوف التي ذكرتها؛ وإنما اشترطتُ ذلك؛ لأن الإسلام عندها صفوة الأديان، ولأن المؤمن مُثْبِتٌ ومعه برهانه، والعقل الإنساني المشترَك يأبى مُصادَرة برهان المثبت، ويأبى معارضة النافي بدعوى جديدة، بل يناقش أدلة المثبت إن استطاع التخلُّصَ منها، ثم يستأنف دعوى نفيه بالبراهين إن استطاعها.
والوقفة الخامسة: أنَّ هذا العلم المادي الذي أنتج أسلحة الدمار جاء الخبر عنه وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أُمِّيَّة، وهو عليه الصلاة والسلام أُمِّيٌّ ليس له من الأمر شيء إلا إبلاغه الوحي، وما كان يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه، وما تخرج مِن أبسط مراحل التعليم وهي الكتاتيب، ومما بلَّغه عن ربِّه {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ سورة النحل-8]، وهو نصٌّ عامٌّ في سياق المراكب والزينة؛ فهل كان هذا العلم المادي الجبار مأثوراً تاريخياً تلقَّاه من أخبار بني عصره؟.. وإذْ كان جديداً فهل كَذَب خبرُه، وكيف يُفسِّر العقلُ البشري صدقَه والرسول الأُمِّيُّ صلى الله عليه وسلم بتلك الصفة؟.
والوقفة السادسة: أنَّ تلك المخاوف التي ذكرتها الكاتبة كلها فساد، وقد أخبر عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [ سورة الروم- 41]، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في أوائل سِنِيِّ البعثة الكريمة ولم يظهر فساد في البحر، ولم يَعُمَّ الفسادُ في البر من فعل البشر بمثل تلك المخاوف، بل كان الدين في بدايته البُشرى بسعادة البشرية، ولم ينكر هذا الخبر كافر ولا مسلم؛ لأنهم يعلمون ببلاغة لغتهم التي نزل بها الشرع أنَّ ذلك خبر عن المستقبل بصيغة الماضي؛ لتحقُّقه وقُربه.. والقرب بالمعادلة بين ما مضى من أجيال البشرية ــ وهو آماد طويلة ــ بالمتبقي القليل من الدنيا.. أفلم يظهر الفساد في البر والبحر الآن بما كسبت أيدي الناس، وفي قمة ذلك الكوارث البيئية؟!.. فكيف عَلِمَ الرسول الأُمِّيُّ الصادق المصدوق هذا الذي سيحدث ؟.
والوقفة السابعة: هل يجرؤ عاقل على القول عن قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل-8]، إنه شيء خلقه البشر ؟!.. هذا محال؛ لأن بعضه اكتشاف من البشر لأشياء في الكون قبل وجودهم، وبعضه عمل وتركيب اخترعوه ولم يخلقوه، بل عملوه من المواد المخلوقة قبلهم من الهواء والماء والنار والتراب، ومما تركَّب من ذلك من عناصر كيميائية أنافت على مئة عنصر كالأوكسجين والهيدروجين.. ثم هم يعلمون بالمشاهدة أنهم خرجوا من بطون أمهاتهم عراةً لا يعلمون شيئاً؛ فظلوا في تربية الحضانة ثم تربية التعليم من مهدهم إلى لحدهم؛ فعاد الأمر إلى أنَّ الذي خلقهم وعلَّمهم وأقدرهم هو خالقهم وخالق ما عملوا.
والوقفة الثامنة: أنَّه من الكلام الرخيص دعوى أن العصر العملي ــ أي عصور العلم المادي المتجدِّد ــ يقتضي ضرورة الإلحاد؛ لأنَّ الإلحاد (وهو اليوم عامٌّ منتشر) لم يكن وعياً يُوصف بأنه نعمة ما دام عاجزاً عن دَفْعِ الكوارث التي ليست هي من عمل البشر كالأعاصير والفيضانات وما يترتَّب على شدَّة الحرِّ أو البرد من كوارث.. ولأن الكوارث الناتجة من صنع البشر كأسلحة الدمار تصديقٌ لبراهين الإيمان، ونتيجة لحتميات الإلحاد؛ لأنَّ براهين الإيمان بخالق البشر، وبراهين الشرائع التي أنزلها خالق البشر لإسعادهم تمنع منعاً باتاً مِن الفساد، وعلى هذا يحرم تغيير فطرة الله كتحويل سواد الزنجي إلى بياض رُخامي قبيح، وكتحويل الذكر بالوسائل العلمية إلى جنس ثالث يُفقِده رجولته، ويهبه شهوة النساء؛ وإذْ هذا فسادٌ مُـحَرَّم فاختراع الوسائل التي تحققه محرم.. وأسلحة الدمار التي يتعدَّى ضررها إلى من لم يكن طرفاً في الحرب، وتُهلك العبادَ أو تشوههم أو تشوِّه نسلهم، وتُفسد البر والبحر والمدر: عملٌ مُـحَرَّم؛ فصنعُه وعدم إلغائه محرم؛ لأنه ظلم وإفساد.. وصنع وإعداد القوة التي تملك بها الأمة الدفاع عن نفسها، وتهاجم بها عدوَّها: كل ذلك مُوَظَّف ببراهين الإيمان للعدل والإحسان لا للظلم والابتزاز بغير حق، ومن براهين الإيمان في ديننا المنْعُ من بيع السلاح في حال فتنة حصلت بين شرائح من الأمة، بل تسعى الأمة في الإصلاح، وتردع الظالم بالقدر الذي يكفُّ ظلمَه تدريجياً.. والنظام العالمي اليوم الذي تحكمه عملياً القوَّةُ، وتحكمه أيديولوجياً وتحليلياً (أي نفعياً): الأطماعُ في موارد وممتلكات المستضعفين، والفكرُ الميتافيزيقي الصهيوني الذي جعل (تل أبيب) عاصمةَ العالم؛ لفرض الوثنية والإلحاد والإباحية والعدمية.. مع أنَّ المتأدلجون لا يعتقدون جواز ذلك إلا على أنه وسيلةٌ بالتضليل الصهيوني، وليس في براهين الإيمان إباحة الوسائل المحرَّمة لو كانت الغايات مباحة؛ فكيف إذا كانت الغايات باطلة وشراً وقبحاً.. والنظام العالمي اليوم ليس دَعَوِيّْاً مشتركاً، ولكنه طغيان وإكراه يَـحْرِمُ المستضعفين من حرية دينهم وثقافتهم وهويتهم وسياستهم واقتصادهم.. مع الجهود الـمُكثَّفة بالمال والإغراء بالمناصب والتضليل الفكري من أجل زرع الأغيار في الأمة.. ولم نجد طغيان هذا النظام العالمي موجَّهاً إلى الوثنيين كالبوذيين الذين يقتلون المسلمين صباحَ مساءَ على مرأىوسمعٍ من العالم في بورما، ولم يكن موجَّهاً إلى من لا دين له كالدول القوية العَلْمانية، ولا إلى الطائفية المنفصلة عن كل دين بدين وضعي أو وثني كأفراخ الباطنية؛ لأنهم في خدمة طغيان النظام العالمي؛ وإنما كان الطغيان العالمي موجَّهاً إلى أصدق وأصح دين خالد لم يُحرَّف ولم يُبدَّل، وإلى أهل الإسلام؛ لإخراجهم عن دينهم، والهيمنة على أرزاقهم وإستراتيجيَّاتهم، وإلزامهم بما يرفضه العقل الإنساني المشترك وهو (مُجمل الديمقراطية)؛ وذلك دين وضعي يُصادر براهين الإيمان وبراهين العلم.. وما يجري في سوريا اليوم أعظم برهان على التآمر على الإسلام والمسلمين، وهذا أمر أعلنوه مباشرةً منذ جورباتشوف إلى نيكسون وريغان وآل بوش إلى (خارطة الشرق الأوسط).. وهكذا ليبيا ــ وأنا بها خبير خالطتُ أهلها عدداً من السنين ــ ما عهدناهم إلا أمَّةً مسلمةً واحدة؛ وإنما هناك تعدُّد قَبَلي يَرُوْضُه الإسلام لولا ما حُوصِروا به من طغيان القذافي مع مئات الألوف من غير ليبيا منحهم بسخاء الجنسية الليبية، ولم يكن له جيش، وإنما عنده عملاء، ومال، وكتائب من المجنَّسين والمرتزقة، فكيف غُيِّبَ هذا الواقع؛ فكان الجمهور هم الأصوات القليلة ؟.. إن هذا لعجب !.. إننا اليوم نُحارَب باسم ديننا وأرزاقنا وتحقيق وجودنا المعتدِّ به، ولا نستطيع الدفاع عن أنفسنا باسم ديننا وهويتنا، بل ندافع بما ارتضاه أعداؤنا مِـمَّـا يمزجنا بالريح كمجمل الديمقراطية.. ولكن لله حكمة خفية، ولطف خفي عليهما براهين الإيمان، وهو ابتلاء الأمة خلال ما اقترفته سبعين عاماً من تغييب دينهم وهويتهم عن حياتهم السياسية في الأكثر، وعن حياتهم العامة في الأقل؛ فكان التشريعُ للبغاء والخمور، وكان حبُّ الدنيا والوهن بكراهية الموت؛ فمثل ما حصل في سوريا وليبيا إنما هو تمحيص من جهة، وتعليم من الله بشرف الموت في سبيل الله.. ولو حصل مثل هذا للشعوب العربية والإسلامية في وقتٍ مبكر ما صمدت لهم إسرائيل وعبيدها أشهراً؛ وإذن فإعلان الجهاد في سبيل الحق والعدل والخير حاصل ولا بد ما ظل تآمر النظام العالمي بهذه الشراسة، والله واعد بتتميم المسيرة، ولم يضمن ابتداءها.
والوقفة التاسعة: أنني لا أمَلُّ من التساؤل عن أعباء البشرية اليوم كفيروس الإيدز، والكوارث البيئية.. أتساءل: مِن أين نتجت؟.. هل نتجت من مؤمنين يُحرِّمون الظلم كجعل بلاد المستضعفين مَدْفناً للوباء الذَّري والإباحية كالبغاء الذي أنتج الإيدز، وكالعدمية التي غَيَّبتْ أربابها؛ فغيَّبوا وجودهم فيما يُدمِّرهم، وتخلَّوا عن مسؤوليتهم في عمارة الديار وإسعاد العباد ببراهين الدين والعقل والعلم؟؟.. كلا إن هذا الوباء وتلك الكوارث نتيجة الجيوش وقياداتها الظالمة التي لا تُقدِّرُ الله حقَّ قدره، وتصادر براهين العقل والعلم اتِّباعاً للأهواء، وتفرض التشريع للإباحية؛ وإذن فالوعي الذي هو نعمة هو التخلِّي عن الإلحاد والإباحية والعدمية، والاعتصام ببراهين الإيمان عقيدة وسلوكاً.
والوقفة العاشرة: أن براهين المشاهَدة أثبتت التلازم القطعي بين الإلحاد والظلم والإباحية والعدمية.
والوقفة الحادية عشرة ــ وهي الأخيرة ــ: دعوى أن من بركات الإلحاد: ممارسةَ حريتنا الفعَّالة.
قال أبو عبدالرحمن: إنني قد بيَّنتُ كثيراً أن التحرر من الحق باطل، والتحرر من الخير شر، والتحرر من الجمال قُبح.. وعكس ذلك صحيح.. وأقول ههنا: إنه من الـمُحال التمتُّع بالحرية المطلقة؛ فذلك دلال طفل، ولجاجةُ معانِد، وأكتفي بمثالٍ واحدٍ عن الموت، وهو من براهين الإيمان التي لا يستطيع معانِدٌ أن يُظهِرَ شُبهة على رده؛ وذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ{83} وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ{84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ{85} فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ{86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الواقعة 83 - 87]؛ وإنما للمؤمن والملحد ما يملكه من حرية القدرة والاختيار، والذي يختار بحريته وقدرته الإلحاد فمتعته الفَعَّالة هي ما مضى من الظلم والكوارث البيئية التي عَدُّوها من بركات الإلحاد.. وأما الإشفاق من عجز المعمورة أن تتحمَّل أكثر من قدرتها فليس ذلك من حرية البشرية وقدرتها التي لا تملك ردَّ زيادة نفس من الريح، أو هديراً من الفيضان، أو ردَّ هاطِلِ هَدْمٍ وغرق، بل المتكفِّل بها خالقها جل جلاله، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.