من غرائب ما يحكى عن سنوات الطفرة البائدة أن رجلاً من سكان الحائر نقلته تجارة العقار إلى قصر منيف في العليا. من المتفق عليه عالمياً أن الغنى والفخامة وجودة الخدمات من نصيب الشمال، والفقر والغبار والمجاري والتلوث للجنوب، وذلك ليس عندنا فقط بل على مستوى الكرة الأرضية. أستراليا ونيوزيلندا ليستا شذوذاً عن هذه القاعدة، لأنهما مستعمرتان لأقوام من الشمال انتقلوا بعقولهم واختراعاتهم وآلاتهم وعفشهم إلى الجنوب.
نعود للمواطن الذي نقلته طفرة العقار من الحاير إلى العليا. يقال والعهدة على الراوي إن ذلك الرجل وأسرته تمتعوا لبعض الوقت بالعيش الرغيد في البيت الجديد، لكن ما لبث الأبناء أن لاحظوا علامات السهر وصفرة الإرهاق على وجه الوالد، كما لاحظت الوالدة ارتخاء في عموميات وخصوصيات الأب لم يكن معهوداً في الأيام الخوالي في الحاير. عندما استجوبوا الأب عن سر ذبوله أفادهم بأنه فقد لذة النوم لشدة الصداع الذي ينتابه ليلاً عندما يأوي إلى الفراش.
اجتهد الأبناء البررة بتحريض من الأم القلقة في البحث عن علاج عند أشهر الأطباء وأغلاهم تسعيرة، وهم بالطبع أطباء مستشفيات وعيادات العليا. هؤلاء كلهم فشلوا في الحصول على تشخيص حالة الوالد وعلاجه، لأن جميع التحاليل والتصاوير والتخاطيط أظهرت أنه لا يعاني من أي علل باطنة أو ظاهرة. كذلك الأطباء المخضرمون في البطحاء وشارع الثميري والخزان والرقاة في غبيرة والعود والكواؤون في المرقب والصالحية والعطارون في النسيم وشرق انكاس، كل هؤلاء تمت استشارتهم ولم يفلحوا. أيضاً الأطباء الألمان الذين ارتحلت العائلة جواً إليهم طلباً للاستطباب فشلوا في تشخيص متلازمة الصداع والأرق والذبول المترتبة على الانتقال من الحاير إلى العليا عند ثري الطفرة المذكور.
ذات يوم عرج على العائلة جار الوالد وصديقه من أيام الحاير للسلام والسؤال عن الأحوال في الظروف المعيشية الجديدة وللاستطلاع الفضولي أيضاً. لاحظ الجار فوراً وضوح التغيرات في قسمات وحركات صديقه القديم، وهذا بدوره اشتكى له الصداع الرهيب الذي يداهمه كلما آوى إلى الفراش فيحرمه من النوم. بعد ثلاثة فناجيل قهوة وسبع تمرات تخللها تفكير عميق، تنحنح الجار ووضع يده على رأس صديقه الثري قائلاً: ماهيب غريبة يا أبو سعد، راسك فاقدن الهوى اللي متعودن عليه سبعين سنة، تعال الليلة ارقد عندي وشف وش يصير.
وبالفعل في تلك الليلة وعلى روائح مجاري الحائر والمسلخ العام في الجوار تمتع ثري العقار بنومة هادئة هانئة لم يذقها منذ غادر الحائر إلى العليا، ليلة لم يتخللها صداع ولا كوابيس.
في اليوم التالي جمع الأب كل أفراد أسرته وتفرس في وجوههم ثم قال: خلاص يا عيالي ويا أم عيالي، ترانا نبي نضف عفشنا ونرجع إلى الحاير.
كانت الصدمة مهولة على الوالدة وبناتها وأولادها دون استثناء لأنهم لم يصدقوا منذ البداية أنهم قد تخلصوا من السكن في الحاير ومشاكل الحاير البيئية. بعد نقاش طويل وهرج ومرج وبكاء وصراخ قالت الأم لأولادها وبناتها: خلاص اسكتوا كلكم.. وجدت الحل. أنتم يا أولاد اعملوا قائمة بأسمائكم على مدار الأسبوع، وعلى من عليه الدور أن يحضر بسيارته صفيحة كاملة معبأة بطين وأوحال الحائر يومياً ويعطيها لإحدى أخواته، وهذه بدورها تخزنها في السطح تجنباً لانتشار الروائح في القصر وعندما يخلد أبوكم إلى الفراش تضعها أختكم عند رأسه لينام على روائح الحاير ويتذكر الأيام الخوالي. وأنتن يا بنات، على من تستلم المناوبة أن تفتح نوافذ الغرف في الصباح ليدخل هواء العليا ويطرد هواء الحاير ثم تسلم الصفيحة البائتة لأخيها ليخرجها إلى الحوش.
منذ ذلك اليوم عاش الوالد بقية عمره دون صداع وأرق واسترجع ما فقده وذلك على عهدة الراوي.
سردت عليكم هذه القصة الغريبة العجيبة للاستدلال على قوة السلطة التي تملكها الظروف المعيشية والعادات والتقاليد الاجتماعية على وظائف الأعضاء البشرية والأحاسيس والأذواق وممانعة الناس للتجديد والتحديث.
أريد من هذا المفهوم التأسيس للحلقة القادمة في هذه الزاوية لمحاولة التعمق في الموضوع. حتى ذلك الحين أنصح القراء من سكان العليا زيارة الحاير وسكان الحاير بزيارة العليا لتوسعة المدارك الجغرافية والبيئية عن مدينة الرياض العاصمة.