تقول لي إحدى الزميلات مازحة: «تعالي نعلن تديُّننا»، قلت لها: «الحمد لله أنا متديّنة، وعلاقتي بربي هي علاقة خاصة لا يجب أن أطلع عليها الآخرين، لأنها هنا - قد - تدخل في الرِّياء»، قاطعتني: «توقفي، ها أنتِ قلتيها بنفسك، هذا الرِّياء سيفتح لنا الأبواب، وستلج أسماؤنا في عالم المحاضرات والدعوة، وسنكون أنا وأنتِ في تصنيف الأثرياء!». في الحقيقة، لم أميّز وقتها بين نبرة المزاح والجد، لأنّ الموضوع وصل في رأسي إلى حدِّ الغليان، وهذه الزميلة أعرفها امرأة صادقة وواضحة مع نفسها ومع الآخرين، فكيف يصل تفكيرها إلى هذه المرحلة؟ وكيف تقبل على نفسها وتدعوني معها للمتاجرة بالدِّين؟
وحتى لا يتأزم النقاش، ولأنها تعرفني في مثل هذه المواضيع فإنّ صبري ينقطع بسرعة، مدّت يدها تجاهي لأهدأ، كانت دعوتها هذه لفتح النقاش حول المتاجرة بالدِّين، والأبواب المفتوحة أمام الصادق والكاذب دون تمييز، وواصلنا النقاش إلى الأحوال التي تم فيها استخدام الدِّين للشهرة والنجومية، ولم يفتنا الترحُّم على علمائنا الأفاضل ممن كان الدِّين عندهم نقياً على الفطرة لا يرجون من ورائه لا نجومية ولا شهرة ولا برامج ولا صوراً تُنشر لهم في كل مكان وبكلِّ الأوضاع!
هذا الكلام تم مع الاستشهاد بتصريح صحافي لوزير العدل الدكتور محمد العيسى، لإحدى الصحف نُشر قبل عدّة أيام تحت مانشيت عريض يقول فيه: «المتطرِّفون استغلوا العاطفة الدينية لتحقيق الشهرة»، وتوضيح وزير العدل لسبب اتجاه الناس نحو هؤلاء المتطرّفين، يعود إلى إحسان الظن بهذا الشيخ أو ذاك الواعظ، ووجود اعتقاد بأنّ هذا التشدُّد ناتج عن حرص على الدِّين. وأنا هنا أؤيده وأزيد عليه، أنّ عدم وعي الناس لهذه الاتجاهات والتوجُّهات يعود إلى تقصير المؤسسات الدينية الرسمية في عدم تبيان فساد منهج هؤلاء المتطرِّفين، ولنا في هذا مثال عندما ظهر ذلك الواعظ الذي وصل تطرُّفه إلى حدّ المطالبة بهدم بيت الله الحرام بمكة وبنائه من جديد بشكل يمنع اختلاط النساء بالرجال، ولا يخفى علينا أنه بذلك يريد استبدال النهج الرّباني الذي رُسم لنا في بيت الله، مع ذلك لم نجد من المؤسسات الدينية الرسمية أيّ رد عليه حتى يفهم الناس ممن ينساقون خلف دعوات التشدُّد خطأ مثل تلك الدعوات، وهذا الصمت ظهر للرأي العام وكأنه موافقة ضمنية على تلك الآراء!
فيما تقتصر الردود على الدعوات المتطرّفة، من خلال الزوايا والأقلام الصحافية، لذا نجد أهل التطرُّف والتشدُّد قد نشطوا كثيراً في التقليل من كُتّاب الرأي ومفكِّري الصحافة، ومحاولة إساءة سمعتهم عبر وسائل الاتصال والإنترنت وبعض القنوات الفضائية المتشدِّدة، بأنهم دعاة انحلال وتغريب ولا يريدون خيراً للمجتمع، وهذا غير صحيح وإنْ وُجد، فهم قلّة غير مسؤولة وغير مؤثّرة، لذا فإنّ تشويه سمعة الكاتبات والكتّاب والنَّيل منهم لأنهم يحملون أقلاماً تهدِّد وجودهم الفعلي وتأثيرهم في الناس، وفي الواقع، وكما يقول المثل: (يد واحدة لا تصفق) وكتّاب الصحافة وحدهم لن يتمكنوا من صد التطرُّف وتفكيكه دون معاونة المؤسسات الدينية ذات التأثير البالغ على الناس.
إنّ استغلال العاطفة الإنسانية هو في كثير من الأحيان من أسوأ أنواع الاستغلال، فكيف به إنْ تم باستغلال العاطفة الدينية؟ كرّم الله - سبحانه وتعالى - ديننا عن هذه الأصناف!
www.salmogren.net