الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وصلاة وسلاماً على النبي محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن سار على نهجهم واقتضى أثرهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن خصيصة هذه الأمة بالصوم ومن معاني الصوم ومن معاني العقيدة التي يجب استحضارها في الصوم مخالفة أهل الكتاب ومخالفة الكفار في طريقة صومهم.
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (فصل ما بين صومنا وصوم من قبلنا أكلة السحور)، وحثَّ في غيرما حديث على تعجيل الفطر وتأخير السحور، فقال عليه الصلاة والسلام (عجلوا الفطر وأخروا السحور). ولقد كان عليه الصلاة والسلام يبادر بالفطر مجرد غروب الشمس، فحديث أبي ذر وعمر --رضي الله عنه-ما- المخرج في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذ أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من ها هنا وأشار إلى المغرب فقد أفطر الصائم)، فيستحب ويتأكد استحاب أن الصائم إذا أذن المؤذن وكان ضابطاً لأول الوقت أن يبادر إلى الفطر، فإن لم يكن أمامه ما يفطر به فلينوي أنه مفطر ليكون ذلك متبعاً لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخالفاً لهدي المشركين. وفي حديث أنس -رضي الله عنه- في الصحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (تسحروا فإن في السحور بركة) وفي تأخيره إلى قرب أذان الفجر، حيث كان بين سحور النبي عليه الصلاة والسلام وأذان الفجر على ما قدر بحديث زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة، فقال له أنس الراوي عنه قال: قلت كم كانت بين الأذان والسحور؟ قال قدر خمسين آية، ففي تأخير السحور تأخير إلى أذان الفجر متابعة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمره بحديث أنس -رضي الله عنه- (تسحروا فإن في السحور بركة)، وفيه تحصيل البركة، ومن أعظم البركات مخالفة أهل الكتاب. ولقد جاءت شريعتنا هذه الشريعة بالأمر بمخالفة المشركين ومخالفة أهل الكتاب في شرائعهم. كل ذلك تميزاً لعقيدة المسلمين وشريعتهم وتميزاً للمسلمين عن أن ينساقوا وراء التشبه بهم والسير وراءهم. ولقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من السير على سنن من قبلنا فقال عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قلت يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال نعم، وفي رواية: فمن؟! تقريراً على هؤلاء الذين حذرنا على أن نتبع سننهم هم اليهود والنصارى بأن لا نضل كما ضلوا ولا نكون قوماً مغضوباً علينا كما غضب الله على اليهود، فإن في السحور فضائل وفيه بركة، ومن البركة ما يتضمن الاستيطاب والدعاء في السحر وهو الوقت الذي ينزل الرب عز وجل، فصح في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ينزل الله عز وجل في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول من يدعوني فستجيب له من يستغفرني فأستغفر له من يسألني فأعطيه)، ففي السحور والاستغفار في السحر تحصيل -بإذن الله- لهذا الفضل وهذا الوقت الفاضل. والواقع أن البركة في السحور تحصيل في جهات متعددة وبأمور عدة منها:
1- اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- ومنها مقصد آخر منها مخالفة أهل الكتاب.
3- ومنها التقوي من هذا السحور على العبادة والزيادة في النشاط.
4- ومنها مدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع والعطش.
5- والتسبب بذكر الله عز وجل الذي يكون في وقت فيه مظنته للإجابة فيسأل الله ويستغفره ويسأله من كريم فضله.
6- ويكون في ذلك الأجر العظيم وأعظم ذلك إدراك صلاة الفجر في جماعة، فإن كثيراً من الناس أو بعض من الناس على حسن الظن بهم يقدمون السحور فينامون في ذلك عن صلاة الفجر، أما إذا أخروا السحور فقاموا وتسحروا أدركوا صلاة الفجر بصحة ونشاط.
ومن معاني العقيدة في الصوم ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتفق على صحته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا نسي أحدكم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)، وهذا الحديث توسعة عظيمة على المسلمين فيه أن الله سبحانه وتعالى فضل على الناسي فأكل وشرب في يوم صومه من رمضان أو غيره ويدخل فيه النفل أيضاً فقد أورد الترمذي رواية (فإنما هو رزق رزقه الله) وللدار قطني أيضاً (فإنما هو رزق ساقه الله إليه)، فهذا فضل عظيم وسعة عظيمة على هذه الأمة أن الله لم يؤخذها بالنسيان الذي أخذ بها غيرها، وهذا من فضل الله علينا وفيه من الفوائد أن الله لطف بعباده ويسر عليهم ورفع عنهم المشقة والحرج، تدل على ذلك آخر سورة البقرة قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة. فرفع الله عنا الحرج، والنسيان من الحرج الذي رفعه الله علينا قال الله عز وجل بعد هذه الآية بعدما أنزلها الله سبحانه وتعالى وقرأها قال: قد فعلت ولهذا استحب جماعة من الصحابة والسلف كمعاذ -رضي الله عنه- إنه إذا قرأ هذه الآية وختمها أن يقول آمين، أي اللهم استجب تأكيداً أن يرفع الله عنا المشقة ويكفر عنا ويرحمنا إنه سبحانه هو مولانا وهو الناصر على أعدائنا، ولقد روى الإمام أحمد هذا الحديث أعني حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (إذا نسي فأكل أو شرب أحدكم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) روى له سبب فأخرج رحمه الله من طريق أم عكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق أنها كانت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأوتيت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصعة من ثريد فأكلت معه ثم تذكرت أنها صائمة فقال ذو اليدين الآن بعدما شبعت فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تمي صومك فإنما هو رزق الله ساقه الله إليك). ومن المستظرفات والمستطرفات في هذا الموضوع ما رواه عبد الرزاق عن جرير عن عمرو بن دينار أن رجلاً جاء إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال أصبحت صائماً فنسيتطعمت، قال له أبو هريرة -رضي الله عنه- لا بأس، قال ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت، قال -رضي الله عنه- لا بأس الله أطعمك وسقاك، ثم قال دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة -رضي الله عنه- أنت إنسان لم تعتد الصيام! ولم يأمره أن يعيد صيامه وإنما لم يؤاخذه بأكله وطعامه حيث أكل وطعم وهو ناسي، وهذه قاعدة مطردة أن الناسي في شريعتنا غير المفرط لا يؤاخذ في نسيانه، لأن الله رفع عنه الحرج. وبهذه المناسبة فإن من أفطر يوماً من رمضان من غير علة ولا مرض أفطره متعمداً لم يقضه صيام الدهر كله وإن صامه، وهذا وعيد عام من أفطر متعمداً أو تعمد الفطر، إلا أن هذا الحديث: (من أفطر يوماً من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر) حديث عظيم رواه البخاري بصيغة التضعيف في صحيحه وقد ضعفه سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله رحمة واسعة- وقال: الصواب، أن يقضي ويستغفر، وعلة ضعفه ثلاث علل، فهو مضطرب في متنه، والعلة الثانية أن في إسناده مجهول، والعلة الثالثة أن راويه لم يسع أبا هريرة -رضي الله عنه- فمن أفطر في نهار رمضان متعمداً سواء أكل أو شرب أو الجماع فالواجب عليه المبادرة إلى الاستغفار من الله عز وجل والتوبة إليه والانطراح بين يديه والعزم على أن لا يعود إلى هذه المعصية مرة أخرى، والإفلاع عنها قبل ذلك، ثم مع استغفاره يقضي يوماً بدل ذلك اليوم الذي أفطره. ونسأل الله أن يتقبل منا ومنه ونسأل الله عز وجل أن لا يؤاخذ بأفعالنا التي فعلناها عن سوء أو جهالة ربنا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وأرحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. وأسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى سواء السبيل وأن يجعلنا من عباده الذين إذا عملوا أصابوا وإذا أصابوا وافقوا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يتقبل صيامنا وقيامنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها ويجمعنا مع والدينا ومشايخنا والمسلمين في أعلى عليين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. علي بن عبد العزيز الشبل - جامعة الإمام