لقد بدأت الكتابات التنموية الجديدة تؤكد أن البيئة ليست وسيلة لتحقيق التنمية، بل هي غاية في حد ذاتها، ولربما كانت التنمية في النهاية السعي من أجل تطوير وإغناء البيئة. إن التنمية لكي تكون تنمية ناجحة، لا بد أن تكون منسجمة مع البيئة. هذه التنمية المنسجمة مع شروط وضوابط البيئة هي التنمية المستديمة.
إن التنمية المستديمة هي خطورة ضرورية لتجاوز التدهور البيئي والمأزق التنموي العميق في العالم المعاصر. إذ أن مستقبل العالم أصبح مرتبطاً بالتخطيط لتنمية دائمة ومتواصلة ومتجددة تلبي احتياجات الحاضر دون أن تضحي بمتطلبات المستقبل.
التنمية المستديمة هي التنمية التي تنطلق من هذه المبادىء وتحقيق التوازن بين التنمية والبيئة، وبين الإنتاج والاستهلاك، وبين قدرة البيئة على العطاء وقدرتها على التحمُّل.
إن التحدي أمام المجتمع الدولي الآن هو كيف يمكن تحقيق تنمية اقتصادية ورفاهية اجتماعية بأقل قدر من استهلاك الموارد الطبيعية وبالحد الأدنى من التلوث والإضرار بالبيئة. هذا هو جوهر التنمية المستديمة التي تم إقرارها في قمة الأرض عام 1992م، التي تحولت إلى واحدة من أهم الإضافات الجديدة والجادة للفكر التنموي العالمي.
لقد أصبحت التنمية المستديمة تعني أموراً مختلفة، وذلك اعتماداً على ما يُعتقد أنه العنصر المهم في تحديد تعريف للمفهوم. فهناك مَنْ يُركز على أن عنصر البيئة هو أهم عناصر التنمية المستديمة، حيث كانت البيئة والاعتبارات البيئية مهملة ليس في التخطيط التنموي فحسب، بل وفي التخطيط الاقتصادي والاجتماعي.
وهناك من يُركز على عنصر الموارد الطبيعية وكيفية إدارتها وتعظيم المنفعة من استخدامها والأساليب الممكنة للابقاء والمحافظة عليها. وهناك من يعتقد أن جوهر التنمية المستديمة هو التفكير في المستقبل، وفي مصير الأجيال القادمة. وهناك من يعتقد أن جوهر التنمية المستديمة هو عنصر المشاركة في إدارة التنمية وبخاصة على الصعيد المحلي، حيث إن التنمية المستديمة هي أساساً التنمية التي تتم على الصعيد المحلي. وهناك من يرى أن هدف التنمية المستديمة المباشر هو القضاء على الفقر بعداً مهماً من أبعاد التنمية المستديمة.
هذه أهم الاستخدامات المتعددة للتنمية المستديمة والتي تبرز أهم السمات المميزة للتنمية المستديمة، على النحو التالي:
1- التنمية المستديمة تختلف عن أشكال التنمية الأخرى، في كونها أشد تداخلاً وأكثر تعقيداً وبخاصة فيما يتعلق بما هو طبيعي وما هو اجتماعي في التنمية.
2- التنمية المستديمة تتوجه أساساً إلى تلبية متطلبات واحتياجات أكثر الشرائح فقراً في المجتمع، وتسعى إلى الحد من تفاقم ظاهرة الفقر في العالم.
3- للتنمية المستديمة بُعْدٌ نوعي يتعلق بتطوير الجوانب الروحية، والثقافية، والإبقاء على الخصوصية الحضارية للمجتمعات.
4- لا يمكن في حالة التنمية المستديمة فصل عناصرها وقياس مؤشراتها، لشدة تداخل الأبعاد الكمية والنوعية.
إن العالم بحاجة إلى تنمية تستند إلى مبدأ أن الموارد الطبيعية محدودة وهي ملك للجميع بالتساوي، وهي ملك للمستقبل بقدر ما هي للحاضر، وهي على كل الأحوال ليست ملكاً للإنسان وحده، وإنما هي أيضاً من حق كل الكائنات والمخلوقات.
إن العالم بحاجة إلى تغيير الاتجاهات البيئية وتقويم النظم الاقتصادية، وتعديل الأنماط البيئية والاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق التنمية الاقتصادية الملائمة، ويشبع الحاجات الإنسانية الأساسية، ويحافظ على سلامة البيئة من خلال اعتماد تقويم دقيق لاعتبارات البيئة، حفاظاً على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
ذلك أن توفير الاستقرار الاقتصادي لا يتم إلا عن طريق تحقيق مبدأ التنمية المستديمة.
وتحسن الإشارة إلى أن للتنمية المستديمة ثلاثة أبعاد رئيسة متكاملة: بيئية واجتماعية واقتصادية.. فثراء البشرية ونموها الاقتصادي يعتمد على موارد البيئة التي تُعد كافية لحاجات الكائنات الحية، إذا ما استخدمت بفاعلية، لأن النمو الاقتصادي ورعاية البيئة مترابطان، كما أن مفتاح التنمية يقع في مشاركة الناس وتنظيمهم وتعليمهم، فالتنمية ينبغي أن تكون ملائمة للبيئة ومواردها، وكذلك للثقافة والتاريخ والنظم الاجتماعية في الموقع الذي تجري فيه.
الاستدامة مبدأ يقول بأن النمو الاقتصادي والتطور لا بد أن يقوما ويُحافظ عليهما ضمن الحدود البيئية، من خلال العلاقات المتبادلة بين الناس وأفعالهم وبين المحيط الحيوي والسنن التي تحكمه.
والاستدامة مبدأ يعني تحقيق مستوى معقول من الرخاء والأمن لجميع أفراد المجتمع بين الدول النامية.. ولذلك يُعد أمراً أساسياً لحماية التوازن البيئي.
إن كل فرد مطالب بالاعتدال في كل شيء بحيث لا يسرف في استهلاك مصادر الطاقة وغيرها من مقومات الحياة، إذ أنه سبحانه لا يحب المسرفين.. وفي ذلك حفظ للتوازن البيئي يقول تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (56) سورة الأعراف.
ويقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41) سورة الروم.
وتدبُّر هذه الآيات يُفهم منه تجنُّب الإغراق في الترف والسرف والسفه والتبذير الذي يؤدي إلى الفساد والإفساد في الأرض، والبحر، والجو، وفي هذا دعوة إلى المحافظة على البيئة والتنمية.
- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية