يعلن بعض رؤساء الحكومات الغربية فور تنصيبه أن أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ أو ربما أهم من أمن بلاده، ويقوم بذلك أحيانا حتى قبل أن يؤدي القسم أمام رئيسه. ويتعجب كثير من العرب من مثل هذا الدعم الغربي غير المحدود لإسرائيل، في كل الظروف ورغم بشاعة المجازر
وأعمال التنكيل المستمرة التي ترتكبها ضد الفلسطينيين الذي يؤكد التاريخ المعروف على الأقل أنهم هم أصحاب الأرض الحقيقيون، بينما تعتمد الصهيونية العالمية في ادعاءاتها حول أرض فلسطين على نظرية غامضة ترى أنها أرض الميعاد لكل يهودي، وأن الفلسطينيين غزاة لها طردوا اليهود عنها في تاريخ غير معروف وغير محدد.
فما الدافع لهذا الدعم غير المبرر بالمال والعتاد والرجال لاسيما وأن من يقوم به لا يتحمل موت قطة أو سجن كلب؟ نحن هنا أمام تاريخين أحدهما فعلي ملموس له مايُثْبِتهُ ويثّبِتهُ، والآخر تاريخ ديني إيماني يستند على نصوص أنزلت بمنزلة العقيدة الثابتة بالرغم من عدم وجود أي شواهد له تدعمه من الواقع.
والغريب أن هذا الإدعاء التاريخي الديني لا مصدر له من الكتب المقدسة كما يعتقد الكثيرون، بل من تفسيرات لاهوتية دسَت فيها، ودعمتها أجهزة الدعاية والإعلام الحديثة فأنزلتها منزلة الحقيقة الراسخة، والعقيدة الثابتة.
ومن أجل ذلك تأسست هيئات منظمة لتجسيد هذه الرؤية على أرض الواقع في القرن التاسع عشر فور انتصار الجانب الذي دعمه اليهود، في غفلة من العرب والمسلمين المتخلفين آنذاك والذي اقتسموا كغنيمة الحرب بين الدول المنتصرة، ومن أهم هذه الهيئات: “الاتحاد العالمي لبريطانيا وإسرائيل”، “ واللجنة البريطانية الأمريكية لشؤون فلسطين”.
فكيف أدخل إنشاء إسرائيل إلى صلب العقيدة المسيحية، وكيف تم إقناع كثير من المسيحيين الذي اعتقدوا بمسؤولية اليهود عن دم عيسى عليه السلام ليتحولوا لأكبر أنصار داعمين لإسرائيل يرون العرب مسؤولين عن دم اليهود؟ القصة تعود لتفسيرات لما يسمى بإنجيل يعقوب James Bible، أدخلها بعض مفسري الأناجيل في القرن التاسع عشر مثل الأسكتلندي المشبوه جون داربي، والأمريكي “سايروس سكاوفيلد” الذي استغل قدرته على الكتابة والإقناع ووظفها في تنقيح أعمال سلفه “داربي” ووضعها في لباس مقنع على شكل شروحات لاهوتية في الإنجيل، ما لبثت أن استحالت لإنجيل بذاتها.
فمعروف أن هناك أناجيل متعددة مختلف حولها، وهي تعتمد في فهمها وتداخلاتها على تاريخ لاهوتي طويل لعبت فيه الكنائس والطوائف المسيحية دوراً محورياً.
ودارت شروحات سكاوفيلد في مجملها على نسج تفسيرات مختلفة تدور حول تقريب الرؤية الصهيونية العالمية القومية في إنشاء إسرائيل من اللاهوت المسيحي وجعلها محوراً للتفسيرات وشرطاً لعودة المسيح.
وعرفت نسخة الإنجيل التي كتبها سكاوفيلد استناداً على شروحات مذهب “داربي”، “بإنجيل سكاوفيلد المرجعي”، وتبنتها مطبعة اكسفورد الجامعية، ونشرها المبشرون البروتستانت في أمريكا وأوربا بدعم إعلامي وتبشيري ضخم، وأصبحت أهم مرجع مسيحي بروتستانتي لجميع المبشرين البروتستانت، ولخطب منابر الكنائيس أيام الأحد، وتحول لأكثر الكتب مبيعاً في العالم المسيحي.
ومنه أعيدت صياغة النبؤات الإنجيلية بعودة “أمة إسرائيل” إلى الأرض الموعودة، وكتابة السيناريو المسيحي لنهاية التاريخ، بحيث حلت “دولة إسرائيل” مكان “أمة إسرائيل”، وفلسطين كأرض الميعاد، وأصبحت الحركة الصهيونية الناشئة آنذاك جزءا لا يتجزأ من الكنيسة البروتستانية، وظهر ما يسمى بالتصور الصهيوني للمسيحية، وتطور لاحقا لمذهب المسيحية الصهيونية.
أما الوعد الثاني من وعود الرب فهو إعادة بناء الهيكل الذي سيبعث عليه المسيح، وسلسلة من الحروب يقوم بها جالوت ذو القوة العظيمة الغاشمة Goliath على مملكة داود David “إسرائيل” المستضعفة، فينصر الله الأمة المستضعفة بالطبع.
ومن ذلك الوقت وإسرائيل تتقمص هذا الدور الضعيف المهدد.
ويجب التأكيد أننا هنا بصدد تفسير لا هوتي للأناجيل وليس الأناجيل ذاتها، ففي اللاهوت المسيحي اعتقاد بأن الله جعل تعامله من عبادة على شكل عهود ومواثيق معهم، وكان الكاثوليك يعتقدون أن اليهود خانوا الرب ونكثوا بوعدهم معه بقتل المسيح، وأن الله أبعدهم واختار المسيحيين كشعبه المختار، ولذلك فالعهد الجديد نسخ العهد القديم التوراة، ولذلك كره الكاثوليك اليهود وارتكبوا بحقهم المجازر.
وهذا ما يسمى بلاهوت “التدابير”.
أما البروتستانت والذي انتشروا بعد الحروب العالمية وبعد هزيمة الدول التي دعمتها الكنيسة الكاثوليكية وناصبت العداء لليهود، فيرون غير ذلك استنادا لتفسيرات كالفن، وداربي، وسكاوفيلد وغيرهم، الذين قدموا لاهوتاً مغايراً هو لاهوت “الاستبدال”، والذي يقول إن الله لم يتخلَّ عن “عهده” لليهود ووعده لهم، وأنهم لم يخونوا الرب ولم يقتلوا المسيح، وإنما استبدل الله تكليفه بتحقيق وعده لهم بحيث كلف المسيحيين بتحقيقه كشرط لعودة المسيح بعد حرب مع جالوت تسمى الهرمقادون.
ولذلك فتفسير العهد الجديد يجب أن يكون وفقاً للعهد القديم وليس العكس، وبعبارة أخرى فواجب المسيحيين الإلهي هو تحقيق عهد الرب لبني إسرائيل.
وهذا هو مصدر نبوءات المستقبل الذي ذكرها الإنجيل لتعاقب أحوال البشرية حتى يحكمها المسيح للأبد.
هذه هي العقلية، عقلية النبوءات الإنجليية، شكلت رؤية كثير من الأمريكيين البروتستانت البسطاء وبعض الأوربيين للحياة والعالم، وتحولت لمعتقد راسخ لديهم لا يحيد، ويقال إن شخصيات سياسية كبيرة مثل توني بلير، وجورج بوش الأب، وبوش الأبن، ورامزفيلد وغيرهم تأثروا بهذا الفكر التبشيري الذي تحول لمصدر الدعم الأول لإسرائيل واليهود في العالم.
أما نحن العرب فصورنا في التبشير الكنسي “كجالوت” المجرم الذي يسعى لتدمير “ديفيد” التقي المستضعف.
وقد صور الإعلام الغربي عبدالناصر على أنه جالوت، وقالوا الشيء ذاته عن صدام، واليوم يروجون للدعاية ذاتها ضد إيران.
فمهما ارتكبت إسرائيل من مجازر، ومهما سرقت من أرض فهي على حق، لأننا كأمم مجاورة من مئات الملايين من البشر لسنا إلا كومبارس في مسرحية اللاهوت المسيحي، دورنا هامشي، ولا حقوق لنا، ولا قيمة لحياتنا إلا كجزء لتحقيق نبوءة الرب بعودة الهيكل وعودة المسيح.
والأسوأ من ذلك أننا نصور وفق هذه الرؤية الخرافية كسلالة ابن غير شرعي لإبراهيم هو إسماعيل من جارية متآمرة عليه هي هاجر، أما الإسرائيليون فهم سلالة إبراهيم الحقيقية من زوجته سارة.
هذا باختصار مصدر العنصرية الأبدية البروتستانتية لكل ما هو عربي ومسلم.
بالأمس، في صحيفة القارديان الخميس 4 أغسطس 2012، نُشرت مقابلة ملفتة للانتباه للسفير البريطاني في إسرائيل ماثيو قولد، وهو يهودي سبق وأن عمل سفيراً لبريطانيا في إيران، وخدم أيضا في عدة مراكز لاتخاذ القرار في الخارجية البريطانية.
وحسب “القارديان” فقد حذر السفير البريطاني إسرائيل من تلاشي الدعم البريطاني لها ليس في أوساط من كانوا يطالبون بمقاطعتها من غير المؤمنين بالخطيئة والإثم الأبديين للعرب والفلسطينيين، بل ممن كانوا يؤيدونها “كديفيد” ويرون خصومها كجالوت، واستطرد السفير في مقابلة على القناة العاشرة الإسرائيلية محذرا من أن التلاشي وصل لفئات وسط في البرلمان كانت معروفة سابقا بدعمها لإسرائيل.
وأضاف السفير الذي كرر لأكثر من مرة أنه يصرح بذلك حرصا على مصلحة إسرائيل، أن صورة إسرائيل كديفيد قد تحولت لدى البعض لجالوت، وأن الفلسطينيين المستضعفين الذين يحاربون بالحجر والمقلاع الجبروت الإسرائيلي أصبح ينظر لهم كديفيد المغلوب على أمره.
كلام السفير البريطاني، جاء برد سريع من “إيقال بالمور” المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، حيث صرح بأن العلاقات البريطانية الإسرائيلية قوية، وأن كلام السفراء عادة لا ينطوي فقط على تعليقات ولكنه يحمل رسائل، ونحن نقدر رسالة السفير ونتفهمها.
والتعليق الأطرف كان تعليق مسؤول إسرائيلي آخر لم تذكر الصحيفة اسمه سخر من قصة جالوت وديفيد كاملة قائلاً: إنها (هذه القصة الخرافية) لا تصف أي شيء مقارب للحقيقة، ومن غير الأمانة أن تقتبس “خرافة” إنجيلية وتقلب لتجعل اليهود يبدون سيئين بمنطق من اختراعهم هم.
هذا المسؤول تكلم عن الحقيقة ومن موقع احتقار لكل ما هو بروتستانتي، لأن إسرائيل بلغت من القوة والغرور ما يسمح لها بالتنكر حتى للخرافات التي ساهمت في إنشائها.
كذبة كبرى صدقها البسطاء من رواد الكنائس، فحق لمن أطلقها أن يسخر منهم ومنها.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif