وصول سكان مدينة الرياض إلى ما يزيد على 5 ملايين وتوقع مواصلة هذا النمو السريع في عدد سكان المدينة يحمل انعكاسات سلبية ليس فقط على مستقبل المدينة، وإنما على مجمل عملية التنمية في بلادنا، ولعل الاختناقات المرورية التي تعاني منها المدينة حالياً التي استدعت الإسراع في إقامة مشروع نقل عام سيكون مكلفاً جداً رغم محدودية جدواه نسبياً في ظل الامتداد الأفقي الواسع للمدينة يعكس في الواقع أحد مظاهر المشكلة التي خُلقت بسبب هذا النمو العالي في سكان المدينة.
الدولة ممثلة بالأجهزة الحكومية ذات العلاقة كالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض تبذل جهوداً كبيرة وتقوم بوضع خطط تستهدف مساعدة المدينة على مواجهة هذا النمو في سكانها، إلا أن هذه الجهود تسهم في الوقت نفسه في استمرار معدلات النمو العالية في سكان المدينة، باجتذابها مزيداً من السكان مع زيادة فرص العمل المتاحة في المدينة مقارنة بالمدن والمناطق الأخرى في المملكة، فيستمر كونها مركز جذب سكاني يزيد من الهجرة الداخلية إليها.
ما يعني أننا في أمسّ الحاجة إلى تفعيل الخطة الشاملة التي أقرت قبل ما يزيد على عقد من الزمن بهدف تحقيق توازن في عملية التنمية في المملكة المتمثلة بالإستراتيجية العمرانية الوطنية، فهي السبيل الوحيد للحد من الهجرة الداخلية للمدن الرئيسية بل حتى يؤمل أن تؤدي إلى هجرة عكسية منها، والتي يتطلب نجاح تنفيذها تضافراً وتكاملاً في جهود مختلف الأجهزة الحكومية بل وحتى القطاع الخاص.
مثال على هذا التضافر والتكامل في الجهود، فإنه لا يكفي مثلاً أن نحد من عدد المقبولين في الجامعات في المدن الرئيسية بهدف تشجيع الطلاب على الالتحاق في الجامعات في المدن الأقل كثافة.. بل يجب أيضاً قصر منح التصاريح بإقامة الجامعات الأهلية على من يطلب إقامتها في مدن صغيرة ولا يرخص بإقامتها في المدن الكبرى، ففي الكثير من دول العالم كالولايات المتحدة، على سبيل المثال، نجد أعرق وأهم جامعاتها في مدن صغيرة يكاد يعتمد النشاط الاقتصادي فيها على الجامعة القائمة فيها.. ولكي نضمن توافر فرص عمل للخريجين في مناطقهم فلا يضطرون للانتقال إلى المدن الرئيسية يجب قصر منح التراخيص والقروض الصناعية على الاستثمارات التي تقام قرب المدن الأقل كثافة مع منح تلك المشروعات مختلف التسهيلات اللازمة لنجاحها، كما يجب إلزام الشركات والأجهزة الحكومية التي تكون معظم أعمالها خارج المدن الرئيسية بنقل مقراتها إلى مدن أقل كثافة قريبة من مواقع أعمالها الرئيسية.
إن إجراءات من هذا النوع ستكون أكثر فاعلية وتملك فرصة أكبر للنجاح في حل الإشكالات التي تعاني منها مدننا الرئيسية مقارنة بالإجراءات التي تقبل هذا النمو في عدد سكانها كأمر واقع وتكتفي بحل الإشكالات المترتبة عليه ولا تحاول مطلقاً معالجة المشكلة من أساسها.. فالتركز السكاني في مدينة الرياض والمدن الرئيسية الأخرى كجدة والدمام، علاوة على ما يتسبب فيه من معضلات تعاني منها تلك المدن، يتسبب في حرمان المناطق الأخرى من موارد بشرية ضرورية لتطور تلك المناطق وازدهارها ما يحد من إمكانية قيام تنمية شاملة ومتوازنة في كافة أرجاء المملكة، وبيئة المملكة الصحراوية تعني محدودية الموارد في أي جزء من أجزاء البلاد وبالتالي فإنه يتحقق استغلال أكفأ لهذه الموارد المحدودة عندما يتم ذلك بأسلوب متوازن على نطاق البلاد بشكل عام، وفوق هذا كله فإنه أمر بالغ الخطورة وغير مبرر أن يتكدس نسبة كبيرة من سكان بلد صحراوي في مدينة واحدة ينقصها الكثير من الموارد لعل أهمها مياه الشرب التي تنقل لها من محطات تحلية تبعد عنها مسافة تزيد على 400 كم.
alsultan11@gmail.comأكاديمي وكاتب اقتصادي *** on twitter @alsultanam