في هذه الأيام الأولمبيادية تتوارى الاتحادات الرياضية العربية خجلاً مثل طالب فاشل وقت الامتحانات، حيث بالكاد ينال رياضي عربي ميدالية، غالباً ما تكون بجهده الفردي، فيما تتسابق الدول لحصد الميداليات من خلال استراتيجية رياضية وتربوية كجزء لا يتجزأ من ثقافتها ومن نظام التعليم لديها.
المنافسة بين الدول للحصول على الميداليات هو تتويج للمهارة البدنية وتعبير عن الحالة الحيوية (الصحية والنفسية والاجتماعية) للشعوب، وتلك من أهداف نظم التربية والتعليم والاتحادات الرياضية. فهل المتهم بفشل العرب أولمبياً هو الاتحادات الرياضية أم نظم التربية والتعليم، أم لا هذا ولا ذاك بل ثقافة المجتمع التي تعتبر مادة التربية البدنية مادة زائدة للترفيه عن النفس، وتطلق عليها حصة الرياضة، وقد يضحكون عليك لو قلت “تربية بدنية” فلا علاقة لها بالتربية، رغم أنها في نظم التعليم المتطورة جزء لا يتجزأ من التربية العامة الهادفة لتكوين الطالب والطالبة بدنياً وعقلياً وانفعالياً واجتماعياً.
الترفيه الرياضي هو بحد ذاته قيمة لكنه لا يكفي لصقل المهارات ما لم تدعم بالتعليم الممنهج من تدريب وانضباط ومباريات دورية جادة. أذكر في الصغر أن هناك قلة من مدرسين رياضة لا نحبهم.. كنا نذهب لحصة الرياضة متشوقين للعب والتسلية كيفما اتفق، أما أولئك القلة من المدرسين فكانوا يضعوننا في طوابير صارمة منضبطة لممارسة تمارين التسخين، ويعلموننا التنظيم والانضباط ويتفلسفون علينا بالأخلاق الرياضية وقوانين الألعاب والمهارات الرياضية..الخ. كنا نعتبرهم معقدين، فالثقافة التي لدينا لم تعلمنا أن أولئك القلة كانوا حريصين على تنمية مهارتنا البدنية والنفسية والاجتماعية. كنا نريد أن نلعب فقط بلا عُقد..
كنا آنذاك، نلاحظ أن أغلب الطلاب أصحاب الدرجات العالية قلما يمارسون الرياضة معنا، وكانوا مجالاً للتندر على المستوى البدني والحركي ناهيك عن مستوى اللعب.. كانوا أيضاً مجالاً للتندر على مستوى العلاقات الاجتماعية بين الطلاب وما قد ينتج عنها من مشاحنات في فترة الفسحة أو بعد نهاية اليوم الدراسي.. والآن يمكنني تصور أن غياب الرياضة عنهم جعلهم يفتقدون للمهارات الجسدية على مستوى الحركة وللمهارات الشخصية على المستوى التفاعل الاجتماعي. فالدراسات الحديثة تؤكد أن التربية البدنية مصدر أساسي للمهارات الجسمانية للطالب وتنمية شخصيته وتفاعله الاجتماعي مع الآخرين.. كما تعمل الرياضة المنهجية للفئات العمرية الأكثر تمرداً (المراهقين والشباب) على تخفيف حدة تمردهم وتوظيف طاقاتهم الجسدية الهائلة في نشاطات نافعة لهم وللمجتمع بدلاً من إهدارها في نشاطات قد تكون مدمرة، مثل التفحيط وألعاب الموت في الشوارع..
أياً كان المتهم، الاتحادات الرياضة أم نظم التربية والتعليم أم الثقافة العربية، فالسؤال هو لماذا لا يتم تقدير الرياضة واحترامها في العالم العربي؟ لأنها مجرد لعبة. لكن أي نوع من اللعب هي؟ هل هي تشابه لعبة ورق مثلا؟ يطرح د. محمد غازي أنه رغم أن فلسفة التربية البدنية تدور حول اللعب والحركة والصحة واللياقة، فإنها ليست بالعزل الذى يتعارف عليه العامة، بل هي البوتقة التي توجد بها خبرات اجتماعية وتربوية تنصهر عناصرها معًا فتخرج لنا فرداً يتمتع بالنضج والشمول والتكامل في شخصيته الإنسانية.
ومن هنا، تحظى التربية البدنية باهتمام كبير في كافة نظم التربية والتعليم لدول العالم المتقدم وعلى رأسها أمريكا، فالرياضة فيها ترتبط بشكل خاص مع التعليم، ففي معظم المدارس الثانوية والجامعات توجد الفرق الرياضية المنظمة. ومن المعروف أن أبطال الولايات المتحدة فى كل الرياضات يتخرجون من المدارس والجامعات. وتهتم الجامعات الأمريكية بالبطولات الرياضية، ولعل أشهرها بطولات كرة السلة، فالبطولة الجامعية الأمريكية لكرة السلة تأتي شعبيتها بعد دورى المحترفين الأمريكي، فيما تتصدر الجامعات بعض البطولات، كبطولة كرة الطائرة والسباحة. كما يشاهد ملايين الأمريكان دوري كرة القدم الأمريكية على مستوى الجامعات.
نعود للأولمبياد، الذي نصرّ أنه مجرد لعبة.. هو أكبر مشهد عالمي تنوعاً بشرياً وثقافياً، وأهم حدث إنساني يطغى على أغلب الأحداث وقت حدوثه.. إنه كرنفال الجسد البشري.. مئات الألوف يتوافدون إليه، ومئات الملايين تتوجه أنظارهم لوقائعه، ومليارات تصرف، وتتنافس الدول على تنظيمه رغم أنها قد تسبب لها خسائر اقتصادية، لأنها تتخطى المسألة الاقتصادية والمنافسة الرياضية المباشرة إلى مكاسب سياسية فضلاً عن المكاسب القيمية والأخلاقية.. والرياضة داعم للاندماج الاجتماعي السلمي والتلاحم الداخلي لأفراد المجتمع والتآخي الخارجي مع مجتمعات وشعوب أخرى.. والمنافسات الرياضية بين الدول تسهم في تحويل العداء تجاه الآخر، وغريزة العنف إلى حالة تفرغ هذا الحس البدائي إلى أسلوب سلمي متحضر، لذا تعد إحدى الوسائل للسيطرة على العنف، لأنها تحوله من تطبيق واقعي مؤلم ومؤذٍ إلى لعبة للتنافس السلمي الشريف.. فإذا كان هناك تنافس عسكري شرس جداً بين أمريكا والصين، فليتم التعبير عنه بطريقة سلمية: التنافس الرياضي، ولتوضع الأسلحة النووية في مخابئها!
التصاق السياسة بالأولمبياد ليس جديداً.. فالدول التي تفوز بالمسابقات الرياضية، تعمل قدر جهدها إلى تحويلها نحو انتصار سياسي.. حتى الدول التي لم يعترف بها في هيئة الأمم المتحدة، بحثت عن هذا الاعتراف في الأولمبياد، كما فعلت هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا في عام 1912 لأن الفوز بميدالية يعني رفع العلم وإطلاق النشيد الوطني، وهما رمزا السيادة الوطنية.. وقبل الحرب العالمية الثانية عام 1936 كانت ألمانيا النازية بزعامة هتلر تراها مناسبة لتنظيم الألعاب الأولمبية من أجل إظهار تفوق العرق الآري والإيديولوجية النازية، وكان هتلر نفسه يراها مسألة مصيرية أن تظهر ألمانيا تفوقها الرياضي مهما كلفت.. وفي عالمنا العربي كان دخول فلسطين كدولة عضو في اللجنة الدولية الأولمبية سنة 1994 ذا دلالة في تزامن هذا الاعتراف غير الدبلوماسي بفلسطين مع اتفاقية أوسلو وإعلان الدولة الفلسطينية.. (محمد بو هرو).
وبعد، متى ستهتم الدول العربية بالرياضة كما ينبغي؟ وكيف تتغير النظرة العربية للرياضة؟ بالتوعية ودعم مشروعات النشاط والثقافة الرياضيين في المجتمع، في أحياء المدن والبلدات.. وزيادة النشاط الرياضي في المدارس ودعمها مادياً وتقنياً وعلمياً، واعتماد التربية البدنية كمادة نجاح ورسوب بالمدارس.. ودعم التعاون بين الجهات التربوية والرياضية.. وإنشاء مسابقات رياضية رسمية بين المدارس تحت اتحاد رياضي للمدارس يروج لهذه المسابقات ويدعمها مادياً وإعلامياً.
alhebib@yahoo.com