|
تاناسيس كامبانسيس
في صباح يوم الجمعة 11 فبراير عام 2001 وقبل ساعات قليلة من إعلان الرئيس المصري السابق حسني مبارك استجابته لرغبة الملايين من المصريين وتخليه عن السلطة تجمع عدد من الجنرالات المتقاعدين يرتشفون القهوة إلى جوار حمام السباحة في نادي الجزيرة أحد أرقى الأندية الاجتماعية في مصر. كان الجنرالات يتحدثون عن المتظاهرين في ميدان التحرير ويتساءلون «هؤلاء المتظاهرون يمثلون من؟» على حد قول أحد هؤلاء الجنرالات الذي كان يعمل قبل وقت قليل من هذا اليوم في جهاز أمن الدولة. وأضاف «إن صوتهم عال لكنهم ينسون أن 79 مليون مصري لم ينزلوا إلى ميدان التحرير وهؤلاء هم الأغلبية».
لم يخطر ببال هؤلاء الجنرالات أن الرئيس مبارك يمكن ان يعلن تنحيه عن الحكم بعد جلستهم تلك بساعات قليلة أو أن الأغلبية الصامتة من المصريين لا تؤيد بنفس القوة نظام مبارك الذي أضاع مكانة مصر كزعيمة للعالم العربي. ولم تتغير مصر طوال عقود ظلت خلالها محورا مستقرا للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط حتى حدث انقلاب فبراير 2011 فلم تعد كذلك.
هذا التحول الذي شهدته مصر إلى جانب الانهيار الداخلي الذي تعرضت له حتى أصبحت دولة متحللة بعد أن كانت مفخرة العرب هو موضوع كتاب ستيفن كوك «كفاح من أجل مصر: من ناصر إلى ميدان التحرير». وكان من الواضح أن المؤلف بدأ إعداد الكتاب قبل ثورة 25 يناير التي أطاحت بنظام مبارك.
المحور الرئيس في كتاب ستيفين كوك هو أنه منذ الانقلاب العسكري في يوليو 1952 لم يكن لدى قادة مصر أي أيديولوجيا. ولجأ هؤلاء القادة بدلا من ذلك إلى نظام قمعي قاس ومعقد لقهر المواطنين وإجبارهم على الصمت في الوقت الذي فشل فيه هؤلاء القادة المتعاقبون على تقديم أي سبب إيجابي لتأييد حكمهم.
ولم يكن كوك يحاول أن يشرح لنا لماذا ثار المصريون عام 2011 ولا ما الذي يمكن أن يحدث في مصر بعد الثورة رغم أن منظوره التحليلي في الكتاب يساعد في الإجابة على السؤالين. هدف كوك الحقيقي هو تشخيص أسباب إنهيار مصر وافتقادها للرؤية والاتجاه في العصر الحديث بدءا من جمال عبد الناصر صاحب الكاريزما إلى نظام حكم الرجل الميت في عهد حسني مبارك مع إلقاء الضوء على الدور الأمريكي في الشئون المصرية. من خلال التدقيق في السياق التاريخي وبخبرته كعالم وخبير في العلوم السياسية حيث يعمل كوك باحثا في مجلس العلاقات الخارجية قدم الرجل كتابا يجمع بين السرد الأرشيفي للأحداث والحوارات التي أجراها مع العديد من الشخصيات المصرية على مدى عشر سنوات.
بدأ الرجل كتابه بمسح سريع للنهضة السياسية الحديثة في مصر وهي بداية ممتازة للكتاب حيث اختار أول ثورة تشهدها مصر ضد الاستعمار عام 1882 ثم فترة سيطرة بريطانيا على مصر والصحوة الدينية التي أشعلها رموز الإحياء الإسلامي. ازدهر الفساد في مصر وأدى إلى صراع على السلطة داخل النخبة الحاكمة ووصل السخط الشعبي إلى درجة الغليان عام 1948 عندما كان جمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار يحاربون في فلسطين ضد إسرائيل التي كانت قد أعلنت حديثا في ذلك الوقت. وما بين جشع الحكام الليبراليين والنزعة المكيافيلية النفعية للبريطانيين الذين كانوا مايزالون يحتلون قناة السويس كان فشل قادة مصر حتميا.
انقلاب ناصر
أطاح انقلاب ناصر في 23 يوليو 1952 بكل مكونات النظام السياسي السابق عليه ووضع السلطة في أيدي مجموعة صغيرة من الضباط غير المعروفين الذين تعهدوا بتقديم المصلحة الوطنية على ما سواها باعتبارهم مجموعة من التكنوقراط غير المنحازين سياسيا إل أي اتجاه. ونجح ناصر في تنفيذ مجموعة من الإصلاحات التي أتاحت التعليم والأرض والوظائف لأبناء الفلاحين الفقراء.
وضع الشعب المصري ثقته وآماله العريضة على القيادة العسكرية غير الفاسدة وغير المسيسة وهي الفكرة التي انتشرت مرة أخرى اليوم لكنها هذه المرة بلا أساس. استغل الضباط الأحرار موجة السخط العميق والقديم تاريخيا ضد التدخل الأجنبي وهو الشعور الذي لم يهدأ أبدا. فقد تحالف عبد الناصر مع السوفييت لكنه لم يتبن الشيوعية أبدا. استخدم جماعة الإخوان المسلمين لكي يحكم قبضته على السلطة في السنوات الأولى لانقلابه العسكري ثم قام بضربهم عندما شعر أن شعبيتهم زادت وكادت تخرج عن السيطرة.
وعندما انهار الجيش المصري الذي عانى من سوء الإدارة في حرب 1967 ضد إسرائيل توقفت إصلاحات عبد الناصر. وبعد عبد الناصر جاء أنور السادات وهو أيضا من الضباط الأحرار الذي غير قاعدة السلطة من خلال إعادة إحياء بقايا المجتمع المدني. خفف السادات القيود المفروضة على أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وشجع الاستثمار الحر وسمح بظهور نخبة جديدة ثرية وهي النخبة التي نضجت وأصبحت الدائرة الرأسمالية الموالية لمبارك.
قام كوك بجهد ممتاز في عرضه لقصة رحلة السادات إلى القدس والتي أدت بسرعة غير متوقعة إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل والتي كانت مرفوضة شعبيا من كل العالم العربي بما في ذلك من الشعب المصري نفسه. بهذه الخطوة فقط أصبح السادات الزعيم المدلل للغرب في الوقت الذي ضحى فيه بكل ما لديه من تأييد محلي. لذلك فإن قلة قليلة من المصريين هي التي حزنت عليه عندما أغتيل برصاصة غادرة في 1981 ليتولى السلطة بعده نائبه حسني مبارك.
عهد مبارك
وكان الدرس الذي استوعبه حسني مبارك وطبقته الحاكمة هو عدم المغامرة بأي شيء. وقد ضحى مبارك بمكانة مصر كقائدة للعالم العربي. كما تخلى عن فكرة المشروعات التنموية القومية مثل السد العالي. وانتشرت النكتة التي تمثل ترجمة كاملة لفلسفة حسني مبارك في الحكم وتقول إحدى تلك النكات إنه عندما ركب مبارك سيارة الرئاسة الفارهة لأول مرة قال له السائق عندما وصلوا إلى مفترق «سيدي الرئيس.. عبد الناصر كان يتجه يسارا والسادات كان يتجه يمينيا فإلى اي اتجاه تريد أن نتجه؟» وبعد تفكير طويل قال مبارك للسائق: لا تتحرك سنظل هنا.
في ظل حكم مبارك تراجع الفقر وتفاوتت الدخول لفترة من الوقت لكن سرعان ما عاد الفقر والتفاوت الطبقي إلى الصعود بوتيرة متسارعة. وأصبحت تضحية الشعب المصري بحرياته مقابل الحصول على الأمن والازدهار الاقتصادي أشبه بصفقة فاوست مع الشيطان. في هذه الصفقة التي قدمها الشاعر الألماني العظيم جوته في مسرحيته الرائعة «فاوست» وافق الدكتور فاوست على التنازل عن روحه للشيطان (مفستو فوليس) لكي يهبه الأخير الشباب الأبدي بكل متعه ومباهجه ولكنه في النهاية خسر روحه وخسر مباهج الحياة ومتعها. هذا هو ما حدث في صفقة المصريين مع مبارك حيث تنازل المصريون عن حرياتهم على أمل الحصول على الأمن والرخاء ولكنهم في النهاية لا احتفظوا بحريتهم ولا تحقق لهم الأمن والرخاء الاقتصادي. وقد تحولت مصر في ظل مبارك إلى دولة بوليسية قمعية يحكمها رجل حليف لواشنطن وتل أبيب.
طوال سنوات التسعينيات ركز مبارك كل جهده من أجل قمع أي معارضة والحفاظ على علاقته الخاصة بواشنطن. وقد نشر جيشا من رجال الشرطة السرية والمخبرين في كل مكان على غرار ألمانيا الشرقية. وتسلل الأمن إلى كل شيء. ولكن بحلول عام 2011 لم يعد جيش المخبرين والجواسيس ولا القنابل المسيلة للدموع وقوات الأمن المركزي ذات القدم الثقيلة كافية لإبقائه في السلطة.
ما قدمه كوك كباحث معروف هو تاريخ تحليلي لمصر الحديثة وهو ما يعطي رؤى قيمة للغاية لأي شخص مهتم بمعرفة كيف وصلت مصر إلى هذا الطريق المسدود في نهاية حكم مبارك.
وأفضل ما في كتاب «كفاح من أجل مصر» عندما يقدم أدق وافضل التفاصيل عن العلاقة بين مصر وأمريكا وإسرائيل. فهو يقدم محاضرة مطولة ومفاجئة عن برنامج «الغذاء مقابل السلام» الأمريكي الذي كان الموجه للعلاقة غير السوية القائمة على المساعدات بين واشنطن والقاهرة.
كان كوك يعرف مادته جيدا وحصل منها على أفضل النقاط. هذا الكتاب يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار للقراء الأمريكيين بشكل خاص حيث سيجدون في هذه الصفحات شرحا للأسباب التي جعلت المساعدات الأمريكية والنفوذ الأمريكي في مصر مثار شكوك قوية من الشعب المصري الأن.
التاريخ يقدم للمصريين اليوم الكثير من التحذيرات. وأخطر شيء يمكن أن يهدد التجربة المصرية الآن هو المؤسسة العسكرية القوية غير الخاضعة للمحاسبة. لقد عانى المصريون طويلا من الفجوة بين خطابات قادتهم الحماسية المثيرة وممارسات هؤلاء القادة. فناصر والسادات ومبارك كانوا يتحدثون عن الثورة والفخر العربي والرخاء الاقتصادي ولكن الحكم العسكري لم يؤد إلا إلى زيادة الفقر وقهر الناس بالتعذيب والقمع. هذا الانفصال بين الخطاب والممارسة على الأرض سيطارد أي شخص يحاول إعادة بناء مصر بعد مبارك. المفارقة يجب أن تكون على النحو التالي: إذا كان القمع والقهر لم ينجح في الحفاظ على حكم الرجل الذي ظل في الرئاسة لمدة 29 عاما و3 أشهر و28 يوما فإنه بالتأكيد لن ينجح مع أي شخص آخر يحاول حكم مصر بعد الثورة.
(*) (نيويورك تايمز) الامريكية