نعيش هذه الأيام في رياض وارفة الجنان، عذبة الرواء، رحبة الأركان، إنها الروح والريحان، فما أطيب ما نحن نعيشه الآن! إنها أيام شهر رمضان الكريم ولياليه، وإذا ذكر الشهر ذكر الفضل، وحسبك به فضلاً أن العباد فيه يتخففون من الأوزار، ليلحقوا بقوافل الموفقين.
لقد حلَّ الخير بحذافيره، لقد حلّ الأجر المطلق والخير العميم، فلنعد لذلك الخير نوايا حسنة وعزماً وحزماً، فو الله إن الاستعداد الحق هو استعداد الروح لا استعداد الجسد بإحضار لوازمه من مأكل ومشرب، وعندما تسبق النية العمل ويعضدها الحزم، يلقى الإنسان من ربه إعانة وتوفيقاً، لقد كنا نتمنى إدراك الشهر فها هي الأمنيات قد حطت رحالها بين أيدينا، فلا تدعها تغادرك كما غادرتك من قبل ولم تهتبلها، فاليوم السباق وغداً الرهان، وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
كل منا يستشعر عظيم هذا الشهر الكريم، لذا تجدنا ننوي النوايا الطيّبة، من صلاة وذكر وقراءة للقرآن وبذل للخير، ولو تأملنا لوجدنا أن هذه النوايا تنقلب أعمالاً صالحة، ولكن في أيام معدودة من الشهر، ولكن لا يكاد ينتصف الشهر أو قبل ذلك أو بعده بقليل، حتى تجد النفوس بدأ يدركها الملل، وأخذت تتقلب في أودية الغفلة، وربما ساقها ذلك إلى الباطل واستبدلت الرفعة بالدنو، وعندما تدخل العشر الأواخر وهي محل الليلة الفضيلة لا تكاد تجد له فيها موطئ قدم، لقد خارت قواه وتلاشت همته، واستبدل خسيساً بنفيس، كم نرى من هؤلاء في كل عام في هذا الشهر الكريم المبارك، وربما كنا منهم، إنهم والله كثر، وهذا بسبب من غياب فقه النفوس معرفة تقلباتها، وإلا من أدرك مشاكسة النفوس لا ريب أنه قادر على كبح جماحها وتوجيهها الوجهة الحسنة.
فلو تأملنا لوجدنا أن أرباب السباق في المضمار لا يتعبون خيلهم في بداياتها، وعند النهايات تجدهم يشدون عليها، والناس في رمضان وهو موطن السباق يتعبون أنفسهم في البدايات وعند الغايات ومحل التنافس وهي الأواخر تجدهم قد خارت قواهم فلم تبلغهم الفوز، وهذا خلاف الهدي النبوي الكريم، فلقد كانت العشر الأولى والوسطى خليطاً من العبادة والراحة، ولكن إذا دخلت العشر الأواخر جدَّ واجتهد وشدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، فكم البون شاسع بيننا وبين الهدي النبوي الكريم، ولا خير في نفس لا تهتدي بهدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهنا أقول لكم كونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان ودوروا مع هديه حيث دار، عندها تلقون الرشاد.
ولا بد أن أشير إلى أمر مهم جداً، ومن فقهه كسب شهره، وسرى منه إلى عمره كله، وهو أن الشهر الكريم ما هو إلا محطة لتنظيم العمر، والمراجعة السنوية، ففيه يحصل التناغم بين سعي الدنيا والآخرة، كما أن الشهر محطة للتدرب على تعاهد القرآن وتدبره، وهو كذلك حافز على المداومة على الصلوات في أوقاتها، وإقبال الإنسان على الطاعات، يطرد الشح من نفسه، فتجده باذلاً لأمواله، فهذه هي البدايات، ومن أخذها بحكمة هدي إلى صراط مستقيم.
ولا بد أن تدرك أن أكثر ما يضيع على الناس الفضائل في هذا الشهر خاصة العشر الأواخر هي الأسواق لاشتراء حاجيات العيد، خاصة مع قصر الليل، لذا لو جرب الإنسان أن يقضي حاجاته قبل رمضان أو في العشر الأول منه سيدرك حينها مدى الراحة النفسية والجسدية التي نالها، لأنه بتقدم الأيام ترتفع الأسعار، وينفد الجديد والجيد، كما أن الشوارع تزدحم بالسيارات، فجرب ذلك وخذ أهلك بالحزم والجد، وإلا لو ترك الأمر لأهواء النساء لجاء فجر يوم العيد وهن في الأسوق.
والتنظيم والأخذ بحسن التدبير يجعل الإنسان في راحة في أمر دينه ودنياه، فلو قمت بوضع جدول لك تراعي فيه نفسك وقدرتك لكنت إلى الفلاح أقرب، ومن نجح فبعد توفيق الله راجع لحسن تنظيمه وتدبيره، ومن أخفق فهو راجع لحياته البائسة التي ضاعت فيها الأولويات، وحكمة الرجل تتضح خلال ذلك.
ولو ذهبت هذه الأيام لمحلات الأغذية لرأيت الحكمة رجالاً، فثمة من يسرف، وثمة من يقتصد، والتباين هنا عندما تجد الرجل المقتدر قد أخذ ما يحتاجه، وتجد الإنسان الضعيف الحال قد أخذ ما يحتاجه وما لا يحتاجه، ولا تكاد تتقدّم أيام الشهر حتى تجده يشتكي الحاجة والضيق، وهذا التدبير هو الذي جعل هذا غنياً وهذا فقيراً، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف49، وإلا لو أخذ الإنسان حاجاته لاستقرت أوضاعنا المادية، ولما كنا هدفاً لأهل الجشع من التجار، فالحكمة الحكمة لتربحوا دينكم ودنياكم.
د. سعد بن عبدالعزيز الدريهم - أستاذ مشارك بقسم العلوم الإنسانية بكلية الملك خالد العسكرية بالحرس الوطني