لعمرك ما الرّزية هدمُ دارٍ
ولا شاة تموت ولا بعير
ولكنّ الرّزية موتُ حرٍّ
يموت لموته بشرٌ كثير
كم هو مؤلم رحيلك وفقدك يا أبي، ولكن اليقين الذي لا شك فيه هو أن كل نفس ستموت والعمر مهما طال فإنه مجرّد أيام معدودات وهذه الحياة دار اختبار وابتلاء، وأهل الخير والصلاح يحبهم الله ويحبهم الناس وهذا من عاجل بشرى المسلم.. كم هو عظيم ألم الفراق ويكون أشد ألماً حينما يكون المفارق والدك، وأشد صعوبة حينما يكون شيخاً له أثره في المجتمع.. ففي يوم السبت 2-9-1433هـ وبعد صلاة العصر ودعت القصيم عموماً وبلدة الطرفية الشرقية خصوصاً واحداً من رجالها الصالحين المتقين وعلماً من أعلامها ورمزاً من رموزها، ممن قضى حياته أكثر من تسعين عاماً في خدمة دينه ووطنه، وقد جبلت على محبته قلوب الجميع الكبار والصغار الرجال والنساء القريب والبعيد حتى العمالة الوافدة أحبته وبكت على فراقه، إنه والدي الشيخ عبد الله بن محمد العبيدان الذي وافاه الأجل بعد معاناة مع المرض.. رحل بعد أن تولى الإمامة والخطابة في جامع الطرفية الشرقية قرابة نصف قرن، رحل بعد أن تميّز بالرقية الشرعية على المرضى دون مقابل يبتغي بذلك الأجر من الله، فقد كان المرضى يأتون إليه من كل مكان داخل المملكة وخارجها وفي كل وقت من ليل أو نهار رغبة منهم في رقيته لهم، حيث كان لا يتقاضى على رقيته أجراً وقد كان الناس يعرضون عليه العطايا والهبات مقابل رقيته لهم، فكان يرفض ذلك رفضاً قاطعاً ويقول إنما أريد ما عند الله فأحبه الناس وتسابقوا للرقية عنده لعلمهم بصدقه وإخلاصه بل كان يزور المرضى في بيوتهم وفي المستشفى ليرقيهم، وقد استفاد من رقيته بإذن الله خلق كثير، رحل بعد أن كان رمزاً من رموز الكرم والتواضع، رحلت بعد أن كنت عطوفاً ورحيماً بالضعفاء والفقراء والمحتاجين وخاصة العمال والأرامل واليتامى مما جعلهم يبكون أشد البكاء على فراقك لأنهم يرون فيك الأب الرحيم الحنون كم كانت لك وقفة مع مسكين أو أرملة أو مطلقة، فأدخلت عليهم السرور بعد أن كان يخيم عليهم الحزن وكم سعيت في حاجاتهم حتى تقضى، فقد كنت الملجأ لهم - بعد الله - كم كنت يا والدي تجوب الشوارع في حر الظهيرة الوقت الذي يخلد فيه الناس للراحة فتقدم ما عندك من صدقات وزكوات وطعام للمحتاجين من أهل بلدتنا الطرفية، وكنت تختار هذا الوقت لأنه لا يوجد لديك وقت فراغ غيره فأنت مشغول في الأوقات الأخرى بالرقية على الناس وكم كنت يا أبي حريصاً على لمّ الشمل وجمع الكلمة وعدم التفرق والبعد عن الشحناء والبغضاء، فقد سعيتللإصلاح بين الناس وبذلت مالك وجاهك لتعود المياه إلى مجاريها فكم من أسرة كادت أن تتفكّك وتتمزق فكنت - بعد الله - سبباً في لمّ شملها وكم من بيت كاد أن يتهدّم فكنت - بعد الله - سبباً في إعادة بنائه، وكم كنت يا والدي تحب الآخرين ويحبونك وتسامحهم ويسامحونك وتحسن الظن بهم.. وكم كنت يا والدي سليم الصدر فقلبك لا يحمل حقداً ولا غلاً ولا حسداً لأحد.. وكم كنت يا والدي واصلاً لحرمك تتفقد أحوالهم وتعود مريضهم وتواسي فقيرهم، ولعل يوم الخميس من كل أسبوع يشهد لك بذلك، وكم كنت يا والدي صبوراً على الناس على اختلاف مشاربهم ومطالبهم الكل يلجأ إليك صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً لقضاء حوائجهم وإصلاح ذات بينهم.. وكم كنت يا والدي تقرض الناس قرضاً حسناً ولا تقوم بتوثيق ذلك كتابة، وحينما طلب منك بعض أهل بيتك توثيق هذه الديون حفاظاً على حقك رددت بتلك العبارة التي لم تسبق إليها ولم نسمعها من أحد قبلك (لا لن أكتبها حتى لا تطالبوا بها بعد موتي)، لله درّك يا صاحب القلب الكبير كل هذه الأفعال كنت تقوم بها وغيرها كثير مما لا نعرفه ولكن الله يعرفها، فقد كنت تفعل الأفعال وتحرص أن لا يطلع عليها أحد إلاّ الله.. وتتمثل قول الشاعر:
إني لأرجو من الغفار مغفرة
أنجو بها من مقام حالك الظلم
ولن أنسى يا والدي تلك الكلمات التي كنت تردّدها حينما أسألك وأنت مريض في أيامك الأخيرة، وقد فقدت الذاكرة ماذا تريد فتقول أريد الجنة فأكرر عليك فتقول أريد الجنة فأكرر هل تريد كذا وكذا مما كنت تحب فتقول لا فقط أريد الجنة وترفع بها صوتك، إنها الهمة العالية يا أبي، وكذلك لن أنسى يا أبي تلك الدعوات التي كنت تدعو بها لنا حينما نقوم بخدمتك ومنها الدعاء لنا بالتوفيق وبدخول الجنة، وكذلك لن أنسى ملازمتك للذِّكر وقراءة القرآن والصلاة وأنت على فراش المرض وفي أيامك الأخيرة وقد فقدت الذاكرة، حقيقة لا أستطيع حصر خصالك الحميدة ولكن هي إشارات أحسب أن من يعرفك لديه أكثر منها.. ومن شاهد تلك الجموع الغفيرة التي صلّت عليه وتبعت جنازته وكذلك تلك الجموع الغفيرة التي توافدت جماعات وفرادى رجالاً ونساء إلى منزل الأخ الأكبر فهد للرجال ويوسف للنساء لتقديم واجب العزاء في الفقيد، أدرك حجم محبة الناس له وحزنهم على فقده، وتمنى أن تكون جنازته كهذه الجنازة وأنتم شهود الله في أرضه، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن مما خفف مصابنا ثناء الناس عليه ودعاؤهم له بالرحمة والمغفرة وذكرهم لمحاسنه وصنيع أفعاله، والسعيد من استعد لمثل هذا اليوم فالأعمار محدودة والأنفاس معدودة، اللهم نوّر له قبره واجعله روضة من رياض الجنة وآنس وحشته واغفر له وارحمه واعف عنه وأكرم نزله وأدخله الجنة بغير حساب، اللهم ارفع درجته في الجنة واجعل الفردوس الأعلى مكانه من الجنة، اللهم ارزقه لذّة النظر إلى وجهك الكريم، اللهم احشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اجعل ما أصابه كفارة لذنوبه ورفعة لدرجاته، اللهم أصلح ذرّيته واجعلهم من عبادك الصالحين واجمعنا به في جنات النعيم.
كتبه ابنك -صالح بن عبد الله العبيدان - الطرفية