عندما التقيت بصفتي رئيس لجنة العلاقات الدولية بالغرفة التجارية والصناعية بجدة، مع زملائي في اللجنة، بالوفد التجاري الروسي الذي حضر منتدى جدة الاقتصادي، شرحنا لهم أسباب غضبتنا في العالم الإسلامي، وليس السعودية فقط،
من الموقف الروسي في سوريا. سألني رئيس الوفد لماذا نأبه لما يجري في بلد آخر، لا تربطنا به حدود جغرافية، وليس من ضمن منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، فسألته بدوري لماذا تعتقد أن العالم الإسلامي من المغرب إلى إندونيسيا وقف وقفة رجل واحد من الغزو السوفيتي لأفغانستان؟ كيف إذن تتوقع أن يكون موقفنا من معاناة شعب عربي مسلم تربطنا به أواصر تاريخية وعرقية ودينية وجغرافية. بلد كانت عاصمته دمشق هي عاصمة الخلافة الإسلامية من شرق الصين إلى جنوب فرنسا.
ذكرته بكيف كانت شعبية الاتحاد السوفيتي في العالم العربي والإسلامي، رغم موقفنا المبدئي من الشيوعية، لما بدا من وقوفه مع الحق الفلسطيني، رغم أن ما يخفى كان أعظم. فالهجرة اليهودية السوفيتية لم تتوقف وقتها، ومنها عقول هندسية وعلمية وذرية غيرت من وجه إسرائيل ورجحت الميزان لصالحها في صراعها مع العرب.
أما اليوم، فقد تكشفت الوجوه والعورات، وظهر للأمة ما قد خفي، وعرفنا أن الروس مستعدون لمسح شعب بكامله من أجل بقاء نظام يضمن لهم مصالحهم في المنطقة.
لم يرد حينها، ثم أسر لي في لقاء آخر بأسباب أخرى للموقف الروسي. قال بأن الأمر يتجاوز ميناء وقاعدة طرطوس البحرية التي تعتبر آخر الموانئ التي لم تخسرها روسيا في العالم، والمصالح التجارية والعلاقات العسكرية بين البلدين، إلى أمر يتصل بالنفسية الروسية. فالروس، شعبا وحكومة، يشعر منذ سقوط جدار برلين أن الغرب يربح كل معارك النفوذ والسيطرة الإستراتيجية. فحلف الناتو توسع حتى باتت صواريخه تهدد الداخل الروسي، وحلفاءه، من كوريا وفيتنام إلى الهند وأفغانستان إلى أمريكا الوسطى والجنوبية إلى إفريقيا والشرق الأوسط، كلهم خرجوا من معسكر السوفيات واحدا تلو الآخر. وكان آخر الخارجين من المنطقة مصر، والصومال، وإثيوبيا، واليمن الجنوبي، ثم العراق وأخيرا ليبيا. وهكذا لم يعد للروس غير ورقة توت واحدة تغطي سوأة عجزهم وانكماشهم هي سوريا. ولذا فإن الموقف الروسي لا يمكن تقديره بحسابات الربح والخسارة، ومنطق السياسة والاستراتيجيا فقط، ولكن بالعاطفة الوطنية الجياشة، التي تحن إلى ماض تليد وتخشى على آخر ما يشي به أن يزول.
بقيت على هذه القناعة بأسباب السوفييت أرددها كلما سئلت، وآخرها في برنامج “المملكة هذا المساء” على القناة السعودية الأولى، حتى تبينت لي حقائق أخرى أهم وأخطر.
روسيا اليوم تواجه ما تعتبره خطرا إسلاميا عظيما. ففي الداخل وصلت نسبة المسلمين إلى ستة بالمئة من السكان، وهم في حالة تزايد مستمر نتيجة لتراجع الزيادة السكانية في البلاد نتيجة لانخفاض نسبة الإنجاب، فيما يتزايد المسلمون نتيجة زيادة الإنجاب عندهم. كما ارتفعت نسبة الداخلين في الإسلام من الروس البيض، وانتشرت بينهم السلفية المتشددة.
ونظرا لزيادة نسبة الشباب بين المسلمين الروس وظروفهم الاقتصادية الأقل حظا، خاصة في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي، كالشيشان وبلاد القوقاز، فإن نسبتهم تزايدت في الجيش وقوى الأمن الداخلي. أضف إلى هذا كله قوتهم الانتخابية، لتجد أمامك تغييرا هاما في التوازنات السكانية والسياسية والأمنية تهدد بالخطر غلبة وسيطرة الروس البيض على مقاليد السلطة في البلاد.
هذا بالنسبة للداخل، أما الخارج، فتحيط روسيا في الجنوب جمهوريات إسلامية كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي، وخرجت من تحت هيمنته حاقدة عليه. فبعد سبعين عاما من القهر والكبت ومحاربة الدين وقمع أتباعه، ظهر العداء الدفين بين الشعوب المسلمة المستقلة لكل ما هو روسي، فتدهورت العلاقات السياسية والاقتصادية ووصلت لدرجة تهديد صادرات الغاز الروسية لأوروبا، والتي يمر أنبوبها ببعض هذه الجمهوريات.
أما في العالم العربي والإسلامي فإن ذكرى الغزو السوفيتي لأفغانستان، ودعمهم للصرب واضطهادهم للشيشان، ومساندتهم لأنظمة ظالمة مستبدة مثل النظام البعثي في العراق وسوريا، والدموي في ليبيا، والعلاقات المتطورة مع إسرائيل، أفقد روسيا ما قد تبقى لها من رصيد شعبي حصدته أيام الحرب الباردة.
كل ما سبق يفسر الهلع الروسي من سقوط آخر الحلفاء وهي سوريا، وانتصار المسلمين مرة أخرى عليها، مما قد يثير حماس المسلمين عندها وينقل إليهم عدوى الربيع الإسلامي في العالم العربي.
قلت للوفد الروسي إنكم تراهنون على حصان خاسر لا محالة، وحينها ستخسرون العالم العربي والإسلامي كله خسارة كاملة. وأن من الخير لهم إيقاف نزيف الخسائر بتغيير موقفهم والتعاون مع النظام القادم لا محالة، واستعادة ما يمكن استعادته من مصداقية واحترام.
وعدني بأن ينقل ما سمعه إلى المسئولين الروس.. ولعله فعل. ولكن ما أصيب به الروس على كل المستويات من هلع يصل إلى درجة المرض النفسي من عقدة الإسلامفوبيا، لم يعد يجدي معه منطق أو حوار. فهم يريدون أن يؤدبوا الإسلام السياسي الجديد، والذي بلغ من القوة ما بلغه في العالم العربي الجديد، ويكسروا شوكته في سوريا، كما حاولوا، في أفغانستان وصربيا والشيشان، حتى لا تنتشر عدواه إلى عمق بلادهم، وشعوبها الإسلامية، ونحن، في المقابل، نصر على تحقيق النصر على آخر أصنامهم ورموزهم وعملائهم. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
kbatarfi@gmail.com