لشهر رمضان من بين الشهور مكانة خاصة في نفس كل مسلم، الكل ينتظره بشوق، يفرح لقدومه ويستبشر، تغمر النفوس فيه بهجة وإشراقة، الكل يبارك للآخر بقدوم الشهر، يبادله التمنيات والدعوات الصادقة بأن يتقبل الله الصيام والقيام، وأن يعيده الله على الجميع أعواماً عديدة نظراً لما في هذا الشهر من عبادات متنوعة تكسو النفس روحانية لكونها تجدد الصلة بالله تعالى، رمضان فرصة للمراجعة والتقويم والتصحيح والتزود بالأعمال الصالحة التي يتفرد بها هذا الشهر عن غيره من الشهور.
في البدء مراجعة النفس ومحاسبتها بقصد تزكيتها ومعالجة أوجه اضطرابها بقصد رفع درجة تقواها، مراجعتها في ضوء المعايير التي لا يسع المسلم أن يقصر فيها فضلاً عن أن يتناساها أو يهملها أو يتخطاها، المعايير التي يكتسب الإنسان بموجبها سماته البشرية، وخصائصه الإنسانية، المعايير التي تحقق سواء الشخصية وتوازنها وتكاملها واستقامتها، اللآفت في هذه المعايير جميعها أنها بسيطة سهلة ميسرة، متوافقة مع الفطرة منسجمة معها، وبالتالي لا يعذر أحد في أن يحققها بالصورة التي تصنع منه إنساناً متكامل السمات والصفات، الإنسان الخليفة الذي استخلفه الله على الأرض وأوكل له إعمارها.
تزكية النفس، وتعزيز تقواها، يوثق العلاقة مع الله، وكلما توثقت العلاقة بالله استنارت بصيرة الإنسان ومعرفته بكل ما يقربه إلى الله من الأعمال الصالحة وبالصفة التي تتوافق مع هدي الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عدل الله سبحانه وتعالى مع عباده، أن أبواب التواصل مع الله مفتوحة في كل آن، لا تتطلب واسطة ولا توصية، فالعبادات العملية والقولية كلها تصل من العبد إلى الله مباشرة، وكل ما تتطلبه الصدق والإخلاص والمداومة والاستقامة واليقين بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد.
في رمضان تسمو النفس عن الخلافات وعن الصغائر، وتغدو أكثر قابلية للتسامح والعفو والتسامي على الإساءة، مما يسهل عليها إمكان كسر الحواجز التي تعكر صفو العلاقات وخاصة على مستوى الأسرية، ومن واقع تتبع طبيعة المشكلات الأسرية وتحليلها، يتبين أن مما يعكرها صفو العلاقة مع الأهل ويوترها ويفسدها صور من سوء التفاهم أقل ما يقال عنها أنها تافهة، كأن تتوتر العلاقة بين الأهل بسبب مشاحنة بين أطفال، أو بسبب خلاف على استئثار بمال دون وجه حق، أو قالت فلانه عنا كذا، وفلان كذا، تضطرب العلاقة، ويطول الهجر والتدابر، ويبقى كل في مكانه لا يكلم الآخر ولا يزره، أعجب كيف يتحمل هؤلاء هذه الصورة البغيضة من الهجر والتدابر والكراهية لا سيما بين الأهل والإخوة والأقربين، أما علم هؤلاء أن معطيات الدنيا كلها ترخص أمام لحظة تواد وتراحم.
وللتدابر والهجر صور يصعب فهمها وتصديقها بين الأصدقاء والزملاء، وبدت واضحة حتى بين من يظن أنهم متفقون فكرياً، ومتوافقون في سماتهم وأطرهم العملية، فهذا ينكر ذاك ويرفضه لأنه لا يوافقه في فهم نص أو تفسير موقف، على الرغم من أنه يقرأ قول الله تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (118) سورة هود، ارتضى الله لخلقه الإختلاف، لأنه لو شاء سبحانه لجعلهم على دين واحد وهو دين الإسلام، إلا أن البشر ما زالوا مختلفين في أديانهم وهذا مقتضى حكمة الله، فما بالك بالاختلاف في فهم نص أو تأويله، أو تفسير موقف تجاه حدث ما وتغليب سوء الظن، هذه أمور يجب ألا تتخذ ذريعة للصراع والتفسيق والتكفير.
ويبقى التعدي على الحقوق من أكثر الممارسات التي تولد التباغض بين الناس في هذا الزمن، إن حلول رمضان مرة كل سنة يعد فرصة لترويض النفس وتخليصها من الأحقاد، وطي صفحات الماضي الملطخة بسواد الخطايا والذنوب، وفتح صفحات بيضاء نقية قوامها الحب والتسامح.