مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، وبيَّن أثره في حياة الفرد، وجزاءه العظيم عند الله. ويحضرني في هذه المناسبة مثالان، وما أكثر الأمثلة في سِيَر الناس، واخترتهما من بين الأمثلة الكثيرة، أحدهما من نماذج العلماء، وتنفرد بهذا النموذج تراجم العلماء المسلمين الذين يتخذونه عقيدة واحتساباً، والآخر شعبي متداول يوجد في كل بيئة.
فالأول: يعطي نموذجاً فريداً بالاستجابة في تغيير العقيدة، بعد القناعة والتجربة العملية، في حكاية يهودي جاور الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - في بغداد لمدة خمس عشرة سنة، حيث تعمد ذلك اليهودي أن يفتح باب بيت الخلاء، برائحته القذرة ومياهه الآسنة، على بيت أبي حنيفة، لتنساب نحوه، وتؤذيه برائحتها وفضلاتها، إمعاناً منه في تسليط الأذى على واحد من كبار علماء المسلمين، ليؤذيه، ويستثير غضبه، كما هي عادة اليهود، ومن يتأسى بهم، أو يتخلق بأخلاقهم في المكايدة، وتعمد إيذاء المسلمين عن عقيدة، لأنَّ ذلك عند بعضهم يعتبر قربةً من القربات في ملتهم، أو هكذا يعتقدون.
وهذا من باب المكايدة للاختلاف العقدي، والحقد الكامن في قلوب أولئك القوم، في كل ما يرونه ضاراً بالمسلمين السلفيين، ومخالفاً لأمر الله، عقيدة راسخة، وسلوكاً يتوارثونه إلى اليوم، ومن ينهج نهجهم، كما بينه الله سبحانه في كتابه الكريم. سارت الأمور على هذا المنحى مع تتابع الأيام، وتعاقب الليل والنهار. الإمام أبو حنيفة صابر محتسباً، في تحمل هذا الأذى، لأنه لا يريد أن يغضب لنفسه، أو يتأثر حميَّة لمكانته في الدولة، ولدى أبناء المجتمع الإسلامي، حتى لا يتحول الأمر عنده من رغبة فيما عند الله، وحماسة لدينه، الذي يُؤثرُهُ على مطلب النفس، والاتجاهات الشخصية، إلى انتقام، ورد فعل شخصي، في حميّة لردِّ الأذى.
واليهودي مُتلذِّذ في عمله، ويتشفَّى لأنَّه آذى علماً من أعلام الإسلام، وبارزاً في علمه ومكانته وفضله، إذ يرى في هذا التصرف راحة نفسيَّة، ومتعة قلبية، لأنَّ هذه الأذيّة، ترمز عنده وعند بني جلدته إلى ما هو أكبر، وهو إيذاء الإسلام نفسه بأي أسلوب يرونه.
وما ذلك إلا أنَّ اليهود، ومن تطبَّع بأعمالهم، قد أخذوا على كواهلهم مهمة إيذاء أصحاب الديانة الإسلامية، مع التركيز على العلماء عَمْداً، كما حصل بالأول مع النصارى، وعيسى عليه السلام، والحواريين، تم الحقد بصفة خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث نصّبوا من أنفسهم أعمدة العداء والمكيدة للإسلام وأهله، وقد بيَّن الله سبحانه في سورة المائدة، أنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، إذ هم أشدّ عداوة من الكفار وعبدة الأصنام.
فالواحد منهم يسير على درب الجماعة، لأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، وعبْر مسيرة التاريخ سار على دربهم أقوام، بانت آثارهم كلما وجدوا مجالاً للعبث والإيذاء، وفي مقدمتهم عبد الله بن سبأ الذي عمل مكيدته عندما سنحت له فرصة، ليعمل بجهده وإصراره على مبدأ أبناء عقيدته، محاولاً تشتيت شمل جماعة المسلمين، وتفريق صفوفهم، وما ذلك إلا أن طبع اليهود متأصل في الفرد والجماعة كلما وجدوا سبيلاً. ويشاء الله أن يمرض أبو حنيفة، فيأتي هذا الجار ضمن من جاء لزيارته، فلم يتحمّل هذه الرائحة، فوضع يده على أنفه متبرِّماً ممَّا يشم، ومستقذراً، وبسؤال تقريري، يلدرك هل أبو حنيفة على علم أم لا؟
فسأل اليهودي أبا حنيفة قائلاً: منذ متى وهذه الرائحة عندكم؟ وأجابه بجواب مسكت: منذ جاورتنا. ولم يؤنّبه، ولم يفعل شيئاً طوال السنوات الماضية، لأن دينه يأمره بحسن الجوار والصبر على أذى الجار، واحترام حق الجوار، ومن جانب ليعطيه درساً في أسلوب الدعوة الحسنة، وبحسن الخلق الذي تنجذب معه القلوب، وبأسلوب حسن تطمئن إليه النفوس، لأن النفس مع من أحسن إليها، ومن هذا.. فقد أدرك هذا اليهودي مكانة الإسلام في صقل النفوس، والتحكم في عقول أبنائه، ودور علماء الإسلام كلما ارتفعت مكانتهم، في فهم تعاليم دينهم، وحرصهم على تطبيقها منهج عمل، وأسلوب تعامل. وبعد أن أجابه أبو حنيفة: منذ جاورتنا؟ فقد شرح الله صدر هذا اليهودي، بهذا التعامل وحسن خلق هذا العالم وصبره، وقال لأبي حنيفة -رحمه الله- إن ديناً يدعو لمثل هذا، وتتمثل فيه تلك الصفات، لهو خير دين، ثم نطق بالشهادتين، وأسلم من ساعته، ففرح أبو حنيفة والحاضرون، بهذا المشهد المؤثر الذي تحول من عداء للإسلام، متمثلاً في عداوة تتحول إلى انقلاب في الموازين، لأن الله سبحانه هو مقلب القلوب، ومهيء الأسباب بحسن الخلق، ولين الجانب، والتحمّل من أجل العقيدة التي هذَّب الله بها النفوس.
وقد قيل إن مثل هذه الحكاية، تروى لِسَهلِ التستري رحمه الله.
أما النموذج الثاني، الذي نأخذ منه طريقاً، في النفاذ لسويداء القلوب، وتأثير لين الجانب، والرفق في التعامل مع الآخرين، وانعكاساته على الأعمال، وهو ثمرة من حسن الخلق، الذي مدح الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، كما جاء في عدة آيات من كتاب الله الكريم، منها قوله تعالى: وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (159) سورة آل عمران، وهذه الحكاية لحسن تأثيرها: فهي تُروى كثيراً بالاستفاضة على ألسنة الناس في بعض المجتمعات، وفي كل مجتمع نجد قصصاً تتماثل في المنهج والأسلوب والتأثير. ذلك أن شخصاً كان يَقْطِفُ رُطَباً من نخلة في أحد البساتين، في وقت النضج، ويترنم بأهازيج الغناء، تحيط به النشوة، فمرَّ به رجل ينتسب إلى طلبة العلم، ويتحمّس للدعوة إلى دين الإسلام، ولما اقترب منه نَهَرَهُ بشدّة، بل سبّه سباً مقذعاً، وكأنه يدعوه إلى شكر نعمة الله عليه بالعُنْف، ويذكّره بما يجب عليه بالقسوة والإلزام، غير ملتزم بحسن الخلق، وأسلوب الدعوة، الذي ربّا الله أنبياءه عليه، في القول اللين، والتبسّط في التبليغ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) سورة طه، في قصة موسى مع فرعون.
إذ ما كان هذا منهج الإسلام في الدعوة، لكنّه درس مفيد لمن يحرص على الخير، والمصلحة للدِّين، وابتغاء الأجر، وذلك أنَّ كل فرد يريد اتباع منهج الأنبياء والصالحين في حسن التبليغ، حتى يكون لدعوته ثمرة وقبولاً، وهذا الداعية أجبر صاحبه الذي يقطف ثمرات من تلك النخلة، إلاّ مبادلة السب بالسب، وسوء الأدب بمثله، وشفى قلبه بعد أن كال له الصاع صاعين، واستمر في غنائه وطربه.
إلا أن هذا الداعية أدرك خطأ نفسه، وحَمِدَ الله أنه لم يعرّفه على نفسه، ففكّر في أي أسلوب آخر، يُغَطِّي به سوء أدبه في أسلوب الدعوة، فآثر السكوت، وتغيير المجرى، بعد أن راجع نفسه، وأدرك الخطأ الذي وقع فيه.
وهذا ما دفعه إلى التمعّن في معنى الحكمة التي تقول: إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب، وهذا السكوت يجب أن يوظفه، وفق منطلق الإسلام، في الرفق وحسن الخلق، وتوجيه العمل والنية لصالح الدعوة، لذات الدعوة التي يراد بها الله والتحمّل في سبيلها.
وفي هذا استحضر قصّة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما تبارز مع عمرو بن ودّ، وهو من أشد المكذّبين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جثى عليّ على صدره لينفذ فيه طعنته ويقضي عليه، ليريح رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين من شره، فبصق عمرو بن ودّ في وجه عليّ رضي الله عنه، فقام عنه وتركه بعد أن أمكنه الله منه، وعندما سئل عليّ رضي الله عنه، لماذا لم تقتله وقد أمكنك الله منه، وهو في قبضة يدك، قال: غضبي لله، وكنت عازماً على قتله، حميّة لله ودفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الله الحقّ، واستجابة لأمر الله بقتل المشركين، إذا لم يدخلوا في الإسلام بعد دعوتهم إليه، وبعد أن عَمِلَ ما عمل خشيت أن تكون غضبتي لنفسي فتركته، حتى لا يتغلب ما للنفس على ما لله سبحانه.
أدرك هذا الداعية دلالة هذا الموقف، وأثر حسن الخلق في التحمل واستمالة النفوس فآثر السكوت ثم الانصراف.. لكنّه بعد قليل وإمعان الفكر، عاد من طريق آخر، ذاكراً الله ومهللاً ومسلماً على الرجل، وهو لا يزال يترنّم بأصوات الغناء، فبارك له مع الدعاء له على ما هو فيه من عمل، وما حباه الله من نعمة، ثم تجاذبا الحديث باللين والرفق في أمور شتى، هذا في رأس النخلة، والداعية عند أسفلها. ولمَّا كان الحديث لطيفاً، فقد أنس كل واحد منهما بصاحبه.
فاغتنم هذا الداعية القول بهدوء ورفق، لصاحبه: ألا ترى معي يا أخي أن من شكر الله سبحانه على ما أعطانا، وما أنعم به علينا بصلاح الثمر حيث حمى سبحانه مزرعتكم من الآفات، وعملكم من الخسران، وكلنا نعلم ما قصّ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القلم، عن أصحاب الجنة لما كفروا نعمة الله عليهم ولم يؤدوا حقه للمساكين: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ سورة القلم (19 - 20).
وإنّ من حِفْظِ المال شكر الله المنعم، والبركة فيما أعطى.. أما الغناء، ونسيان ذكر الله على النعمة، فهذا ممّا يوجب زوالها، لأن الله يقول: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) سورة إبراهيم.
قال صاحب النّخلة: بلى وجزاك الله خيراً، على توجيهك، فإن الشيطان حريص على الإضرار بالإنسان، وأنت بحسن خلقك وطيب حديثك، قد ذكّرتني بالله، وما يجب عليّ بشكر نعمه الكثيرة.
أنت أحسن من شخص جاءني هنا قبل قليل، وسبني وشتمني، فبادلته السب والشتائم. ثم أضفى على ذلك الداعية من النعوت والصفات ما يغني بعضه قدحاً وتجريحاً: ومدحاً للأخير وتجريحاً للأول. وما عرف أن الشخص واحد، ولكن الفرق في لين الجانب، وتوظيف حسن الخلق في العمل الإيجابي، وعدم العنف. فيجب التأسي بالعلماء والعارفين، ونسترشد بسماحة ديننا كما روى عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه سأل حاتم الأصم لمّا قدم عليه، فقال له أحمد بعد بشاشته به، أخبرني كيف التخلص إلى السلامة من الناس؟ فقال حاتم: بثلاثة أشياء هي: تعطيهم مالك، ولا تأخذ من مالهم شيئاً، وتقضي حوائجهم وحقوقهم ولا تطالبهم بقضاء حوائجك، وتصبر على أذاهم ولا تؤذهم، قال أحمد: إنها لصعبة فقال: حاتم وليتك تسلم.