أبو حيان التوحيدي الذي عاش في القرن الرابع عشر، ألّف كتاباً عن الصداقة والصديق، نشأ فقيراً، وكان أبوه يبيع التمر في السوق ولا سيما نوع من التمر يُقال له - التوحيد - ولهذا سُمي بالتوحيدي، وعاش أعزب لم يتزوج، ومع هذا فهو يُلقب بأبي حيان تشبهاً بالفارابي، وعُمّر كثيراً حيث زاد عمره عن مائة عام، وفيه من التناقض الشيء الكثير، فقد كان دارساً للغة، ولعلم الكلام، ولغوياً، وفيلسوفاً، وصوفياً، وعمل في نسخ الكتب ليكتسب قوت يومه، ثم سعى إلى التقرب إلى الوزراء والكتّاب، لعله يحظى بمركز إداري يتناسب مع قدراته العلمية كما يراها، وقد اعترف بنفسه أنه ألّف كتبه للتقرب بها إلى الحكام والوزراء ولم يفلح في تحقيق بغيته، وعندما لم يجد لها شأناً ولم يحقق طموحه أحرقها، وهو يعطينا مبرراً لذلك نكتفي بإيراد واحدة من تلك المبررات حيث يقول: إن العلم يُراد للعمل، والعمل يُراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً على العلم، كان العلم كلاً على العالم.
لذا نراه خليطاً عجيباً من طموح وقدرات وظروف لم تساعده على تحقيق مناه، وفيما يبدو أنه كان يتصف بشيء من سرعة الغضب التي جعلت الوزراء ينفرون منه، ما عدا الوزير ابن سعدان وزير صمصمام الدولة البويهي، لكن حظ أبو حيان العاثر قد أزاح ابن سعدان عن الوزارة بعد أن تسلمها مدة قصيرة، فآثر الاختفاء خوفاً من أعين رجال الوزير الجديد الذي لاحقَ أعوان الوزير السابق.
هذه مقتطفات عن أبي حيان الذي ألّف نحواً من ثمانية عشر مؤلفاً، منها كتاب الصداقة والصديق، والمحاضرات والمناظرات، والبصائر والذخائر، والامتناع والمؤانسة، والمقابسات، وغيرها كثير.
وفي هذه المقالة نقتطف شذرات من كتاب الصداقة والصديق. قيل لإعرابي: من أكرم الناس عُشرة؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح، وإن ظُلِم صفح، وإن ضيق فتح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح.
مرض قيس بن سعد بن عبادة، فأبطأ إخوانه عنه، فقيل إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر منادياً فنادى، ألا من كان لقيس عليه حق فهو منه في حل وسعة، فكثر عواده.
طرق رجل باب بعض السلف في ليل، فقال لجاريته: أبصري من القارع؟ فأتت الباب، فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديق مولاك. فقال الرجل: قولي له: إنه صديق، فقالت له ذلك: فنهض الرجل وقال: والله إني لصديق وقام وبيده سيف، وكيس، وجاريته يسوقها وفتح الباب، وقال: للطارق: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال لا بك ما ساءك، فإنني قسمت أمرك بين ثلاث: فضيق فهذا المال وعدو فهذا السيف أو مشوق فهذه الجارية فتزوجها فقال الرجل: لله درك ما رأيت مثلك.
قال أبو العتاهية لعلي بن الهيثم: ما يحب الصديق، قال: ثلاث خصال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة.
أما أنا فأذكر أن أحدهم كان يشكو من صديق له مدعياً أنه قد أفشى بينهما سراً، فعاتبه على ذلك، وأسرف في القول، فلم يقبل صديقه حدة لسانه مع أنه قد أخطأ في إفشاء سره، فقلت لصاحبي ليس هذا بصديق، فالصديق من لا ينظر إلى الصغيرة، ويتجاوز عن الكبيرة ويحفظ للصديق وده، حتى وإن تجاوز حده.. قيل لديوجاليس: ما الذي ينبغي للمرء أن يتحفظ منه؟ قال: من حسدَ إخوانه ومكرَ أعداءه.. وقال أفلاطون: الأشرار يتتبعون مساوئ الناس، ويتركون محاسنهم، كما يتبع الذباب المواضع الفاسدة من الجسد ويترك الصحيح.
قيل لشيفابون: مَنْ صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها، وأنقل قولاً لأفلاطون لا أتفق معه فيه، حيث يقول: لا ينبغي للعاقل أن يتمنى لصديقه الغني فيزهو عليه، ولكن يتمنى له أن يساويه في الحال، والحقيقة أن أفلاطون قد أخطأ فيما قال، فماذا يمنع أن يكون الصديق أكثر غنى وأرفع شأناً، والصديق إن كان صديقاً حقاً لا يزهو على صديقه، بل قد ينتفع الصديق، والثانية قضاء حاجته.
قيل إخوان السوء يتفرقون عند النكبة ويقبلون مع النعمة، ومن شأنهم التوسل بالإخلاص والمحبة إلى أن يوكلوا الأعين بالأفعال، والأسماع والأقوال، فإن رأوا خيراً ستروه، وإن رأوا شراً أذاعوه ونشروه.
وفي الختام أقول: أليس أولئك كثيرين؟