قيل إن ناسكاً كان يستريح من عناء سفره تحت ظل شجرة، فتنازع أمامه غرابان وقتل أحدهما الآخر ومن ثمّ مرّر ورقة شجر على رفيقه القتيل وعاد إلى الحياة، تعجب الناسك من أمر الغرابين وقرّر أن يحتفظ بالورقة معتبراً إياها كنزا لا يقدر بثمن، ومضى في رحلته ومر بمنزل لفلاح وجد أمامه ثعلبا مقتولا، فمرّر عليه الورقة وإذ به يقوم من موته، ونادى صاحب المنزل وأخبره بما حدث، فقال له الفلاح: إن كان ما تقوله صحيحاً فإني أحذّرك من العبث بهذه الورقة، ولكن الناسك لم يع تماما مقصد الفلاح وتابع سيره وفي أثناء ذلك وجد أسداً قتيلاً فمرر عليه الورقة وأعاده إلى الحياة فما كان من ذلك الأسد إلا أن انقض على الناسك والتهمه!
قد يغدو الفكر أحياناً عبئاً ثقيلاً يحمله المثقف، وكما هو معروف بأن «ذا العقل يشقى في النعيم بعقله»، فيتعاظم شعوره بالغربة في مجتمعه وتتوالى الخيبات، بحيث يبلغ مرحلة العتبة «على حد تعبير علماء النفس»، ويفقد القدرة على التكيف والانخراط في المحيط على علاّته، وقد يقع عندها المثقف في أزمة تشبه تلك التي عاناها الملك في مسرحية نهر الجنون لتوفيق الحكيم، فإن لم يشرب من النهر الملوث قتله الشعب وإن شرب خسر عقله، أمران أحلاهما مرّ! وقد يصل به الأمر إلى حد أن يعلن انهزامه أمام التيارات التي كان يعاكسها أو تعاكسه وتوهن قواه، فلا يعود قادراً على صد تلك الهجمات المتتالية، عندها يعبر عن استسلامه بطرق مختلفة، فهذا أبو حيّان التوحيدي الذي قاسى إحجام السلطة والشعب على حد سواء عنه في ذلك الوقت، قد أعلن انتحاره «ثقافيا أو رمزيا» حينما قرر حرق كتبه أو دفنها لئلا تقع في أيدي العوام، «ولقلة جدواها وضناً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته»، معللا ذلك بأنه لم يكن الأول بل اقتدى بأئمة كما دعاهم كأبي العلاء وداود الطائي وسفيان الثوري الذي يتمنى لو أن يده قطعت قبل أن يكتب ما كتب وغيرهم، والقاسم المشترك بين هؤلاء جميعا التخلص من نتاجهم الفكري بطرق مختلفة كالحرق أو الرمي في البحر أو الدفن والتمزيق، بل إن أبو سعيد السيرافي يقول في وصية لولده: «قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار.»
ولا تقف الأمثلة عند حدود ذلك الزمان، ففي العصر الحديث بكل ما فيه من تعقيدات، ازدادت غربة المثقف وخيباته التي تتكاثر بشراهة عجيبة، وتزيد في تكاثرها الإخفاقات السياسية والاجتماعية بل وحتى العاطفية للأديب، فهذا خليل حاوي الشاعر اللبناني الذي عانى من كثير من «الصواعد والنوازل» في حياته، دون أن يتمكن من فعل شيء تجاهها كان آخرها الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، فما كان منه إلا أن أطلق النار على رأسه في شرفة بيته احتجاجا وإعلانا لعجزه وكأنه بتلك الرصاصة قد أشهر راية الاستسلام مختارا الحل الأسهل ربما في مقابل مزيد من النضال في هذه الحياة المرة!
وهكذا يصبح الفكر والثقافة كمثل ورقة الناسك، التي أحيت غيره لتقتله، ويغدو الخيار الوحيد أمام المثقف الانتحار إن كان حرقا للكتب أو التزاما للصمت والعزلة، أو حتى رصاصة!