الحكاية أن تجرب الموت قبل الأوان.. أن تحيك له الموعد ومن ثم تتآمر على الأشياء والأحباء لتودعهم، وكأنك تقول وببساطة أنا ميت في اليوم المحدد قبل ستة أشهر..
ضعف
الرجل الضعيف، والضعيف جداً، بمقاييس الزمن الماضي، لا مال لا زرع ولا ضرع، إرادة الحياة لا تصنع حياة مثلى.. هي حياة تكفي للنفس، ولا تصل به للكفاف، لا تزرع له في يديه تمراً ولا براً، لا تزجي له العطاء بقدر ما تنهب منه جهده الذي لا يساوي قدر ما يضعه في أفواه زوجته وصغاره، هي حياة تمتصه وتقتات منه، لا تؤوي ولا تبادل العطاء بكرم يستحق وشيء مكتوب كما كان يردد أبوسالم الضعيف والضعيف جداً.
المدينة
لطالما كانت المدينة رداءً فضفاضاً عليه، فكر طويلاً كيف له أن يكون شاب المدينة وفارسها؟ وخانه التفكير، لا سند له «هو بطوله» - كما يقال له - عند أي استعداد لفعل خارق، لا تفرح يا أبا سالم، لن يكون لك فعل الفرسان، المدينة أوسع منك، وشبابها بقلوب قاسية، لا تخضر إلا في ساعات السلم القليلة التي قد تمر موسماً وقد لا تمر مواسم عديدة، اجنح للسلم وأسلم على روحك، درهمان واقعد مع الخوالف، أو ارحل للقرى وضع كسبك طعاماً لصغارك.
رحيل
في الليل هتف الراحلون: إلى القرية.. خروج هو أو هجرة.. أو هروب؟ لا يهم، المهم أن يجد الحياة، أن يغلق على الخيبات الأبواب، ويجعلها تتسامر مع الفقر والجوع، نعم الصحبة.. هكذا تكون القرارات الصعبة في حياة الرجل الضعيف، لا تهم التسمية بقدر ما تهمه النتائج، اختطت القافلة مسارها، بناقته تبعهم أبو سالم بالصغار وأم سالم نحو الشمال مسيرة يومين، وينسى حصار الألسنة، وتقليل شأنه هو الرجل صاحب القرار، والوصمة تسفها الريح في الطريق، وعند الوصول تكون قد محيت تماماً من الوجود.
خاطرة
وصول غير مبهج، لم يكن مستعداً يوماً ما أن يكون مهاجراً، رجلاً يبيع بيته في المدينة؛ ليصل إلى قرية صغيرة كهذه، مال البيت ذهب نصفه سداداً لديون، والمتبقي يكفي لإطعام أسرته شهراً، وبعدها «الرزق على الله»، لا يحب المجهول لكن الهروب من سواد المدنية، وحمرة جروح العائدين من الغزو أو الدفاع على أطرافها يستحق المجازفة، القرية ستكون على مقاسه، والجوع هنا خير من ميتة ليست على البال، الموت على الفراش ستكون له مقدمات مرض مجهول، وقضي الأمر، الروح طير ويوماً سيقع في الفخ «لذا يجب أن أكون مستعداً للشرك»، هكذا كانت الخاطرة تعصره، ولا تخيفه، المهم أن يختار!
رزق
هذه الخراف جميلة جداً، تسبح في هضاب القرية وتلون الأرض بسواد صوفها. موسم الربيع يجعلها حملاً ثقيلاً على أرضهم التي أصبحت أرضه، لا بد لهم أن يعملوا فيها السكين، ومن الوريد للوريد سيكون هو «الجزار»، أخيراً وجد له العمل، خياله أوجد له العمل، وفعل الإراقة وتقرير مصير روح، جذل بطولة حتى ولو على خراف، والمال الذي سيجنى مع كل قطرة يأخذه بعيداً نحو الرزق.
سوق
جزار مع مرتبة الشرف، نالها من عميد القرية، في ذلك اليوم هرب كبش من يومه المحتوم من يد جزار العميد الخاص «هرم هذا الجزار..» كما قال العميد، ونال الكبش من سوق القرية بقرنيه ورجليه وكأنه أبى أن يودع حياته إلا بسيرة بطل، الهروب بطولة الخراف، وأبو سالم تحت شمس الضحى يحمل سكاكينه وينتظر الضحية، تنادى الجمع: كبش العميد يهرب وينطح صغارنا ونساءنا في السوق. لمعت في رأس أبي سالم الفكرة، ينقض على الهارب المشاكس، ويقرر المصير، سيحاول لينال أعطية ما أو حتى ثناءً من رأس القرية وكبيرها، انضم إلى الجمع، حمل كيساً فارغاً، ضحك الجمع منه وتغامزوا: أبو سالم سيصطاد خروفاً أم جراداً؟ تجاهل الغمزات، التقط اللحظة المناسبة التي فتر فيها حماس الكبش، ألقى بالكيس على وجهه، رفس الكبش برجليه، راوغ الصياد الحركة بخفة والتفّت يداه على جسم الكبش، ألقى به على الأرض، صفق الجمهور على وقع المشهد، أخرج السكين بمهارة وقطع.. ثار الدم كماء، حمل الكبش على ظهره وقال بكبرياء للجزار الهرم: عليك السلخ الآن..!
ثناء
وأخيراً نال الثناء في هذه القرية، عميد القرية يدعوه ليأكل من لحم ضحيته، ثم يلقي بعض كلمات على غداء ضيوفه، كانت تكفي لغداء أبو سالم بلا لحم أو مرق، قال فيما روي: «أبو سالم جزار القرية رجل ولا كل الرجال، صارع الكبش لتأكلوا.. هو - وهذا الأهم - جزاري الخاص، ووداعاً للهرم.. «. إيه، هكذا يتحقق المراد، القرى الصغيرة مفصلة على حياتي وعيشي، طابت لك يا أبا سالم، الآن سيكون لك دخل ثابت.. فضلاً عن أعطيات العميد في كل مناسبة.. ووداعاً للسوق وللضنك، وحمى الجوع، وحروق التمر في البطن كل ليلة..
حلم
حلم أو رؤيا لا تهم التسمية، المهم ما حملته من واقع رأى أبو سالم فيما يرى النائم أنه يطارد كبشاً - كالخروف الذي صرعه قبل سنة من اليوم - في إحدى هضاب القرية طارده حتى صعد جبلاً، واختفى الكبش، فتش وظن أنه في جوف المغارة المنفرجة في بطن الجبل كسرة وليد، تلمظ واستعد، سيجد الكبش محشوراً في المغارة، ولا مهرب، دلف المغارة، وانغلقت سريعاً، وسمع الصوت واضحاً: الموت يا أبا سالم، سآخذ روحك اضرب موعداً.. ارتعش وتعرق ظهره، وقال برجفة: من.. من أنت..؟ رد الصوت بوضوح أكثر: ملك الموت، مأمور بأخذك. لكني ذو عيال ولا زلت شاباً. إنه أمر الله يا أبا سالم. ونعم بالله، رد سريعاً، قال الصوت: المهم يجب أن آخذ روحاً من القرية، وسأعود لك في الموعد الذي تضربه لي، خيارك بيدك هيا، فكر سريعاً: علي الجبلي خذه قبلي هو كبير سن، وصاحب مرض، ومقعد، وأصبح سارية من سواري المسجد.. وأنت متى سآخذ روحك؟.. ضرب أبو سالم الموعد بلا تفكير: بعد ستة أشهر. وأفاق من نومه. ارتعب أولاً، ثم ضحك وعزا الأمر إلى الشبع الذي كان لا يعرفه قبل وظيفته عند عميد القرية.
حقيقة
صلى الفجر، وأمال رأسه على الشيخ الطاعن علي الجبلي، وقال بابتسام: يا شيخ علي أرسلت لك ضيفاً زارني في المنام البارحة، تساءل الشيخ: من؟ ملك الموت زارني وسأل عنك، قال الشيخ بصفاء: حياه الله. عند الظهر أُقيمت الصلاة ولم يسمعوا صوت الشيخ يطلق التشهد عالياً فوق رؤوس الجميع بعد الفراغ من الإقامة، كبَّر الإمام ولم تتحرك يدا الجبلي، انتبه من بجانبه، حنا عليه ليوقظه من نومه، ثم صرخ تُوفِّي سارية المسجد الجبلي يطلبكم الحل، ابتلع أبو سالم ريقه وبكى، الآن الحقيقة بين الأيادي جثة الجبلي تُحمل للقبر، وأنا من بعده، لا شبع ولا ري.. والحقيقة تطل مؤطرة كصورة.
استعداد
فهم أبو سالم الرسالة جيداً، والحقيقة أن ستة أشهر ستمر سريعاً وسيرحل، الموت حق، والحياة ممر، وكل الأشياء زائلة، {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}، عزَّى نفسه كثيراً، هذه الرؤيا فرصة لي واختبار، فرصة للاستعداد واختبار من الله لصبري وعدم جزعي، كم من شخص مثلي يستطيع أن يعزي نفسه في موته كل صباح ومساء.. الحمد لله الذي وهب لي الروح بلا اختيار، وسينزعها مني بقدره واختياري.
قبل تمام أشهر المهلة كان قد صفى ماله وما عليه، أوصى على أبنائه أحد ثقات القرية، وقبل أن تتم الأشهر الستة بعشرة أيام مرض وأقعد في بيته، مرضته زوجته بدمعها، ولم تك تعرف أنها تودعه، لم يشع السر، وفي اليوم ما قبل الأخير من الأشهر الستة قال لجليس له بلا مقدمات: يا ليتني قلت ست سنين أو ستين سنة! تساءل عن المغزى من حديثه.. أخبره بابتسامة عن الحلم بالتفصيل، بكى صديقه فنهره، وطلب منه أن يدعو له فقط، ودعه بعد أن قضى جل الليل عنده، كان أبو سالم في قمة حضوره الذهني، لكن جسده يخبو كجمر، قبل أذان الفجر طلب من زوجته ماءً سقته، وبعد الأذان تيمم وصلى الفجر في فراشه، ورجف صوته، تحشرج، نازع استلاب روحه بأنين، مس يد زوجته وكأنها طوق نجاة ورابط أخير بالحياة، وصعدت الروح كريشة من جناح حمامة.