يظل (الرثاء) أصدق الأغراض الشعرية التي تُصوِّر مرارة الفقد، وحسرة الفراق، وإذا كانت الأغراض الأخرى مُتَّهمةً بالمبالغة والكذب وكونَها وسيلة استجلابٍ للمنافع التي يتخذ المبدع من نصِّه سُلَّماً للحصول عليها وتَحقيقها، فإنَّ الرثاء وذكر مَحاسن الفقيد يترفَّع عن هذه الأمور..
ولا ريب أنَّ شهرة النص الرثائي ترجع بعد تَميُّزه وجَماله إلى شُهرة قائله، ومكانة المقول فيه، وهنا يَحضر نصُّ أبي تَمَّام الشهير الذي أبدعه في رثاء مُحمَّد الطوسي القائد الشجاع الذي مات في ميدان المعركة بطلا ما زال التاريخ يتذكره من خلال هذا النص الاستثنائي، وسأقف في هذه الأسطر مع مشهدين من مشاهد هذه المرثية المتميزة، ساعياً إلى الكشف عن بعض جَماليَّاتِها، وداعياً القارئ الكريم إلى مُحاولة استكناه مزيدٍ من أسرار بلاغتها، واستشعار مواضع حسنها وتَميُّزها.
كذا فليجلَّ الخَطْبُ وليفدحُ الأمرُ
فليس لعينٍ لَمْ يَفِـضْ ماؤُها عُذْرُ
تُوفِّيت الآمَالُ بعدَ مُحمَّدٍ
وأصبحَ في شُغْلٍ عن السَّفَرِ السَّفْرُ
فتى كُلَّمَا فَاضَتْ عُيونُ قبيلةٍ
دَماً ضَحِكَتْ عنهُ الأحاديثُ والذِّكُرُ
فتى مَاتَ بين الضَّربِ والطَّعنِ مِيتة
تقومُ مقامَ النصرِ إنْ فاتهُ النَّصْرُ
وَمَا مَاتَ حتى مَاتَ مَضربُ سيفِهِ
مِن الضَّرْبِ واعتلَّتْ عليهِ القَنَا السُّمْرُ
وَقَد كَانَ فَوتُ الموتِ سهلاً فَردَّهُ
إليه الحِفَاظُ المرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ
هذا هو المشهد الأول من مشاهد الرثائية البديعة التي جاد بها علينا شاعرنا الكبير أبو تَمَّام يرثي بها مُحمَّد الطوسي القائد الشجاع الذي قُتل في إحدى المعارك ضد الروم، وهي رثائيةٌ رائعة، تفيض كلماتُها حزناً، وتقطر أحرفها صدقا، وتتداعى أبياتُها لترسم لوحةً بديعةً من أروع لوحات الرثاء في الأدب العربي، وما هذه الأسطر هنا إلا لتحاول أن تكشف عن شيء من أسباب هذه الروعة التي جعلت هذا النص يَحتلُّ هذه المرتبة العالية من الحسن والجمال والبهاء والروعة.
إنَّ أول ما يلفت الانتباه في هذا المشهد الحزين هو ذلك الافتتاح الرائع الذي تبدو فيه ملامح الفاجعة التي حطَّت، وحجم المصيبة التي حلَّت، يتضح ذلك جلياً في الألفاظ التي رسَمت هذا المطلع الذي يتهاوى حزناً وألَماً، تأمَّل (فليجلَّ) (الخطب) (ليفدح) (يَفِضْ)، أضف إلى ذلك الاستهلال النادر بلفظة (كذا) التي تشي بالتسليم لله، والتفويض لأمره في مقتل هذا القائد الشجاع، فقد أيقن الشاعر أنَّ موت هذا الرجل لا يكون إلا في وسط معركة منفرداً بشجاعة نادرة، فلا غرو أن يكون الخطب جللا، والأمر فادحا، ولا عجب ألا يَجد الشاعر عذراً لأيِّ عينٍ لَم يَفِضْ دمعها على مقتل هذا القائد العظيم، بل إنَّ الشاعر يُعمِّق من أثر ذلك الحدث، فيعلن نعياً لِجميع الآمال التي رحلت بعد فقد هذا القائد العظيم، وأضحى الكلُّ مشتغلاً بذلك عن أيِّ شيءٍ آخر، فلا شيء ذا أهَميَّةٍ بعد اليوم لأيِّ أحدٍ أكثر من هذه الفاجعة الكبيرة.
ثُمَّ يصف الشاعر بعض مظاهر الحزن الذي تركه مقتل هذا القائد المظفَّر في هذه الحياة، وذلك من خلال بيتٍ تتجلى فيه بدائع الجمال بشكل جليٍّ ظاهر، وتتعاضد فيه المبالغات؛ لترسم لنا لوحةً مستقلةً تفيض حزناً ولوعة، وهو البيت الذي يقول فيه:
فتى كُلَّمَا فَاضَتْ عُيونُ قبيلةٍ
دَماً ضَحِكَتْ عنهُ الأحاديثُ والذِّكُرُ
إنه يفتتحه بوصفه بِما يدلُّ على صغر سنه حين يذكره بلفظة (فَتَىً)، فلم يكن مُحمَّدٌ في الواقع إلا شاباً في ثلاثينات عمره، خرج من رحم البطولة، وكان غرساً في تربة المعارك، واستوى رُمْحاً مع سيفه الأشدِّ، كل ذلك جعله وأهَّله أن يكون في ذلك العمر قائداً لِجيش الخليفة، وهذا مِمَّا يزيد من هول المصيبة، وصدق العاطفة، وحرارتِها في هذا النص الاستثنائي.
ثُمَّ يصف الشاعر الحزن العميق الذي تركه مقتل هذا القائد العظيم، وفي الوقت نفسه يصف سيرته العطرة التي ما زالت كلُّ زاويةٍ من زوايا هذه الحياة تتذكرها، ففي الوقت الذي فاضت عيون القبائل دماً لفقده، نَجده قد أحيا الأحاديث والذكر والأخبار التي تَحكي بطولته وكرمه وبقية صفاته الحسنة، وكأنَّ هذه الأحاديث تضحك متجاوزةً حزن قبيلته، ودموع أحبابه.
وعاود النظر -أيها القارئ الكريم- في هذا البيت، وقف متأملاً عند لفظة (كلما) التي كما زادت من تلاحم الشطرين فقد دلَّت في الوقت نفسه على الكثرة والزيادة والاستمرار، فبكاء الحزن عليه دائمٌ متتابع، كما أنَّ ضحك الأحاديث عنه كذلك، وتدبَّر في هذه المقابلة البديعة بين الشطرين التي لا تصدر إلا عن شاعرٍ مقتدرٍ بِحجم أبي تَمَّام، وتأمَّل إيثار لفظة (فاضت) التي تُصوِّر كثرة الحزن وشِد َّته وعظمه وهوله، وانظر كيف جَمَعَ العين على جَمْع الكثرة (عيون) لا على القِلَّة (أعين)، ودَقِّق النظر في تَمييز فيضان هذه الدموع الذي ذكر بأنه (دمٌ) لا (دمع)، وأطلق العنان لِخيالك للبحث عن السبب في تنكير لفظة (قبيلة) التي يريد من خلاله تعميم هذا الحزن على كل قبيلة، ليصوِّر حجم المصيبة وعظم الفاجعة، ويؤكِّد في الوقت نفسه أنَّ الراحل لم يكن عادياً كبقيَّة الناس.
ونَجد الشاعر بعد هذا يضع المتلقي في قلب الحدث؛ ليشهد بنفسه أحداث هذه المعركة الطاحنة، ويشهد مقتل هذا القائد الشجاع، فها هي الأبيات تروي شرف البطولة وأمجاد العِزَّة، وتلتقط آخر مشاهد وفاة هذا البطل المغوار الذي سقط شهيداً وسط أهوال المعركة بين الضرب والطعن، ومات ميتةً هي بِمثابة النصر والفوز للقائد، والشاعر هنا يُلمِح إلى هزيمة جيش القائد، غير أنَّ هذا القائد ظفر بإحدى الحسنيين وهي الشهادة، وما أحلاها من ميتة، وما أجمله من سقوط!
ويستمرُّ أبو تَمَّام في تصوير هذه الميتة الفاجعة، فيذكر أنَّ هذا القائد البطل لَم يَمُتْ حتى قدَّم كلَّ ما لديه؛ لنصرة دينه، وخدمة وطنه، لَم يتهاوى ويسقط حتى سقط سيفه الذي قتل به كثيراً من الأعداء، يذكر الشاعر ذلك لكي لا يُظنَّ أنه هرب من المعركة، أو يُتوهَّم أنه عجز عن القتال، لا.. فقد مات بعد أن أدَّى واجبه، وبذل روحه فداءً لذلك.
ولاحظ تكرار لفظة (مات) والألفاظ (مضرب) (الضرب) (القنا) (اعتلت)، وتأمَّل ما تشيعه في البيت من جوٍّ يكاد يضعك في قلب المعركة، ووسط الحدث، وكأنك ترى بأمِّ عينك هذا القائد الشجاع وهو يقاتل بضراوةٍ وإقدام، وتسمع بأذنك صهيل الخيول وصليل السيوف، وتشم بأنفك غبار المعركة وأنهار الدماء، وتُفجع أثناء ذلك بسقوط هذا البطل المغوار بعد أن تَجمَّع عليه الأعداء من كلِّ حدبٍ وصوب، فقرَّر مواصلة رحلة العزَّة والكرامة حتى النهاية، رافضاً الاستسلام، ومُفضِّلاً الموت في سبيل الله على الهرب أو الأسر والذل والعار.
ويضيف الشاعر معنىً آخر للشجاعة النادرة التي تَحلَّى بِها قائدنا الشهيد مُحمَّد الطوسي، يؤكِّد من خلاله التضحية الفذَّة، والعزيمة الصادقة التي تَجسَّدت في شخصه المتميز، فيذكر أبو تَمَّام أنَّ هذا القائد المغوار كان باستطاعته الهروب من الموت وهو مطلب كلِّ نفس، كان باستطاعته الاستسلام والنجاة من القتل، كان بإمكانه أن يَفِرَّ من مواجهة المنية، والبقاء حياً في ظلِّ الأسر والذل، كان كلُّ ذلك سهلاً عليه ويسيرا لا يتطلَّب كثير جهدٍ أو عمل، كيف لا وهو القائد الذي سيجد ألفَ طريقةٍ وطريقةٍ للهروب من مثل هذا الموقف العصيب والمشهد الرهيب، ويؤكِّد الشاعر كلَّ ذلك بلفظة (قد) التي افتتح بِها البيت المقصود، ولكن.. هل فعل الطوسي ذلك؟ هل فرَّ من المعركة وهرب من الحرب؟ هل ألقى السلاح وفضَّل الاستسلام؟ أبداً.. إنَّ شيئاً من ذلك لَم يَحدث.. فعلى الرغم من أنَّ فوت الموت كان سهلاً عليه إلا أنَّ هناك من كان يترقَّبه ويترصَّد له في مثل هذه المواقف.. إنه (الحفاظ المر) (والخلق الوعر).. حتى لو أراد الطوسي الفرار والنجاة من الموت فلن يستطيع.. لِماذا؟ هل لأنَّ الأعداء حاصروه من كل جانب؟ هل استسلم فأبوا إلا أن يقتلوه؟ لا.. لقد منعه من الفرار والنجاة والبقاء على قيد الحياة شيئان: الحفاظ المر، والخلق الوعر..
الحفاظ المرُّ على الدين والوطن.. الحفاظ على العزَّة والكرامة.. الحفاظ على العلياء والمجد.. والخلقُّ الوعر.. الشجاعة والإقدام.. الأنفة من الذل.. رفض الخضوع والاستسلام.. العزيمة الصادقة والوفاء بالعهد.. هذه هي الأمور التي ردَّت مُحمَّداً الطوسي البطل إلى الموت بعد أن كان البقاء على قيد الحياة سهلاً يسيرا، هذه هي الأخلاق التي جعلت هذا القائد الفذَّ يُفضِّل أن يُضحِّي بروحه على أن تتهاوى مقابل أن يَحصل على فرصةٍ أخرى للحياة، ولكن أيَّ حياةٍ كان سيحياها قائدنا العظيم إن هو اختار فوت الموت الذي كان سهلاً عليه في ذلك الموقف العصيب؟ لا شك أنَّها ستكون حياةَ ذُلٍّ وهوانٍ ستمتدُّ برفقته طوال عمره، وستكون ملازمةً له كلَّ حياته، لكنه عرف ذلك واستشعره في ذلك المشهد الرهيب، فاختار الإقدام والموت بعزَّةٍ وكرامة، وكأنه استجاب لدعوة المتنبي الذي جاء بعده بقرون، واختار خياره الثاني حين أنشد:
عِشْ عزيزاً أو مُت وأنت كريمٌ
بينَ طعنِ القَنَا وخَفْقِ البنود
وها هو الطوسي يَموتُ وهو كريم، بين طعن القنا وخفق البنود.
وبعد.. فلا تزعم هذه القراءة الموجزة السريعة أنها ألمت بكل ما في هذا المشهد الرثائي المتميز من هذا النص (الاستثنائي)، بل إنَّها لَم تتجاوز مُجرَّد الوقفات المتواضعة أمام نصٍّ من أبرز نصوص تراثنا العربي الخالد، وهنا أودُّ أن أدوِّن أهمَّ الملامح التي تتميز بِها هذه (المشاهد التمَّامية):
1 - اللغة الحزينة التي تسيطر على القصيدة بشكل واضح جلي، فكأننا نرى الأبيات تَختار ألفاظها المناسبة، والغرض ينتقي أساليبه المنسجمة معه، لذا فلا غرو أن تفوح رائحة الحزن واللوعة من مفردات هذا النص البديع، فألفاظٌ وأساليب مثل: (يَجِلَّ الخطب)، (يفدح الأمر)، (يفض ماؤها)، (توفيت الآمال) (فاضت عيون قبيلة دما)، (فتى مات بين الضرب والطعن)، كلها توحي بالحزن الشديد وتشي بالمصيبة العظيمة التي حلَّت بالشاعر، بل بالدين والوطن قبل ذلك، وقد استطاع أبو تَمَّام إيصال تلك الفكرة ببراعةٍ إلى نفوس المتلقين من خلال دِقَّة اختياره للألفاظ المتميزة، والأساليب البليغة المتقنة.
2 - مقدرة أبي تَمَّام على عرض الموضوع بِما يتناسب مع حجمه وأثره على المتلقي، وتَمَكُّنه من إعطاء المرثيِّ حقَّه من الصفات المستحقة، وبراعته في وصف مشاهد الرعب والموت التي قابلها هذا البطل الشجاع في هذه المعركة الضارية، مِمَّا جعل المتلقي يتفاعل مع هذه المرثية الرائعة على مرِّ الأزمان والعصور، حاساً بعظم الفاجعة التي حلت وشدة الخطب الذي نزل، ومستشعراً قيمة المرثي الراحل.
3 - الجمع في المعاني بين العمق والقوة والابتكار والوضوح، وهي صفةٌ نادرةٌ قلَّما تَجتمع لشاعر، غير أنَّ العجب هنا يزول إذا عرفنا أننا إزاء شاعرٍ بِحجم أبي تَمَّام، إلا أننا لابد أن نشير إلى أنَّ الشاعر قد عُرف عن شعره كثرة الغموض والتعقيد نسبيا، لكنَّ ذلك كله يتلاشى في هذه المرثية الرائعة، فقد سيطر الحزن على لبه، واستولت الفاجعة على عقله، فلا مَجال هنا للتلاعب والتكلُّف، ولا مكان هنا إلا للمعاني الواضحة المبتكرة العميقة.
4 - العاطفة الصادقة الحزينة الجياشة، ولا أظن القارئ الكريم سيجهل هذه الخصيصة، إذ إنَّها من أبرز الأسباب التي جعلت هذا النص يتربَّع صدارة مراثي الأدب العربي، حتى إنَّ القارئ للأبيات أو السامع لَها لتكاد العبرة تَخنقه، والدمع يتحدر من جفونه وهو يصغي إلى هذا النعي الذي يعلنه أبو تَمَّام في هذا النص الباكي الحزين.
5 - الكنايات والاستعارات التي تَمرح في النص وتزيد من روعته وبَهائه، فقد أسند الوفاة إلى الآمال، وجعل دموع القبيلة دماً، كما جعل الأحاديث تضحك، ونَجد في آخر النص استعارتين مكنيتين تَخييليتين، فقد شبَّه (الحفاظ) الشديد بالشيء المُذاق ذي الطعم المر، وحذف المشبه وأبقى شيئاً من لوازمه وهو المرارة، كما شبَّه (الخُلُق) الصعب بالطريق الوعر الذي يلاقي فيه السالك صعوبةً شديدةً في عبوره، وحذف المشبَّه، وأبقى شيئاً من لوازمه وهو الوعورة، والغرض من الاستعارتين هو تصوير شدَّة وفائه لدينه ووطنه وقوة تضحيته فداءً لَهما، فلا عجب والحال كذلك أن يَرُدَّ فوت الموت الذي كان سهلاً عليه في ذلك الموقف من المعركة.
Omar1401@gmail.com