منذ الأزل والمجتمعات الإنسانية يحكمها عنصران، الدين والسياسة، فالدين يتمثل بالقيم المشتركة اجتماعياً والتي تحكم سلوك الفرد بسلطته الذاتية على نفسه، والسياسة تمثل التوظيف الشامل للسلطة الاجتماعية بحيث تحكم الأفراد بسلطة خارجية، هذا من الجانب النظري الفلسفي، ولكن في الواقع المعاش تتداخل مكونات العنصرين بصورة تبادلية أحياناً وأحياناً يتسلط أحدهما على الآخر، ويحدد هذه الآلية تراتبية السلطة في كل من الدين والسياسة، ففي الدين يتنازل الفرد عن سلطته الذاتية على نفسه لشخص آخر يرى أنه أعلم منه في شؤون الدين وينقاد لتوجيهاته وهذا الآخر ينقاد بدوره لصاحب علم أشمل، وهكذا تتكون التراتبية السلطوية في الدين حتى تجتمع سلطاته في شخص واحد، فيكون (بابا) كما عند الكاثوليك المسيحيين أو (مرجعاً) كما عند الشيعة المسلمين أو (مفتياً) كما هو عند السنّة المسلمين وفي كل الأديان الحية على الأرض تتمثل تراتبية بصورة ما، وفي السياسة تجتمع السلطات في شخص الملك أو الرئيس أو نحو ذلك، ويحدث بين عنصري السلطة توافق وتجاذب بصورة تجعل المجتمع متزناً في حالة تمكنه من التعامل الآمن وبقدر ما يكون الاتزان يكتسب المجتمع آلية النمو والتطور أو الشقاق والتنافر، ومنذ الأزل إلا نادراً سيطر الفكر الدكتاتوري على القيادة في كلا العنصرين الديني والسياسي وبات الفرد في المجتمع رهن إرادة تلك القيادات، إن أحسنت تحسنت حاله وإن أساءت ساءت حاله، وهكذا تداولت الأمم والشعوب بين سمو أو هوان وانحطاط.
في العصور الحديثة تمكنت بعض المجتمعات من التحرر من السلطة الدكتاتورية في كل من الدين والسياسة وكوّنت علاقة جديد مبنية على الحرية الفردية وحق الاختيار الجماعي وتبلور هذا النمط في صورة الديمقراطية الدينية والسياسة، فبات الفرد حراً في تصرفاته الدينية في إطار القيم الاجتماعية التي تحد من صولته على المجتمع، وحراً في الانقياد للسلطة السياسية ضمن أطر الولاء الوطني، هذه الديمقراطية تعددت صورها فحققت بعظها العدل والتوازن الاجتماعي الذي أطلق القدرات الإنسانية وشحذ الهمم في سبيل بناء الحضارة والتمدن وبعضها لا زال يعاني من اختلاط مفاهيم الديمقراطية بمفاهيم دكتاتورية أدخلت الشعوب في صراعات ونزاعات جعلتها تعاني بصورة أسوأ مما كانت عليه عندما كان تحكمها الدكتاتورية المطلقة.
العالم العــربي كان مسرحاً في تاريخه المعاصر لتلك الاختلاطات بين مفاهيم الديمقراطية والدكتاتورية، فتألمت أغلب الشعوب من سوء الإدارة وتجاذب السلطة واستغلالها، مما حدا بها لثورات عارمة أطاحت بالأنظمة الفاسدة وشكلت علاقات جديدة، لم يتضح بعد توجهها وقدرتها على الانعتاق من إرث الماضي وقدرتها على مماثلة الديمقراطيات لدى الشعوب المتقدمة. وهذا الأمر فيما أعتقد سوف يكون محل شك، فالدول الديمقراطية المتقدمة استبقت ثوراتها السياسية أو تحولاتها السياسة بتحولات وثورات دينية. فأوروبا لم تستطع أن تتحرر من سلطة الإقطاع في عصورها الوسطى قبل تحررها من سلطة الكنيسة، وما أطلق توجهها نحو الديمقراطية سوى ضعف سيطرة الكنيسة على تصرفات الشعوب وكذلك الحال في اليابان فلم تتبلور الديمقراطية إلا بعد تحجيم السلطات الدينية للإمبراطور وكذلك الأمر في الصين. وتركيا الإسلامية، وإن كان الحزب الحاكم في تركيا ذا لون ديني، إلا أن النظام المسيطر هو العلمانية التي تحجم سلطة رجال الدين على المجتمع.
المجتمعات العربية التي انطلق بها ربيع الثورات السياسة لم يحدث لديها تغيير في هيكلية السلطة الدينية، لذا نجد وبوضوح دخول تلك السلطة في التركيبة السياسة الجديدة وتوليها الوصاية على السلطة السياسة، ومحاولة خلق نموذج ديمقراطي الهيئة ديني السمة، بحيث يكون النصر السياسي الديمقراطي تحت سيطرة الديني التراتبي. ففي مصر نجد الرئيس السياسي بحكم عضويته جماعة الإخوان المسلمين يمتثل لتراتبيتهم وينقاد لتوجيهات مرشدهم وهذا الأمر ماثل في إيران حالياً, والعراق إلى حد ما وربما نجد ذلك في سوريا المستقبل.
قد يجد البعض في كلامي بعض الشطط، ولكن لا أملك إلا ما يختمر في ذهني من تصور، بناء على مشاهداتي وقراءاتي، والتي أرى أن بعض العرب لن يتمتعوا بحكم ديمقراطي سليم قبل أن يخوضوا ربيعًا إسلاميًا يحررهم من سلطة تراتبية الشخصيات الدينية، وهذا لا يعني ثورة على الدين ولكن ثورة على استغلال الدين لاكتساب سلطة اجتماعية.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail