كما يحرك العواطف ويجيّش الخواطر قد يستنطق الأدب التاريخ، ويثير التساؤلات حول حوادثه، هذا ما حدث بالفعل قبل خمسة عقود، أو تزيد. وحينما كانت قرائن الأحداث وتوجهات السياسة الغربية تسعى إلى تسليم (حزب البعث) مقاليد الحكم في بعض الأقطار العربية، ومنها (دمشق)، وترسم في الوقت نفسه سياساته، وأيديولوجياته العقدية، وأركان نظامه، وتصوغ له الدساتير التي
أسهمت فيها قوى الاستعمار، حينذاك كانت هناك أصوات حرة، تدرك أبعاد اللعبة، خنقت حناجرها في الوطن، وغرّدت في مطارح الغربة.
كان الشعر السياسي هو وسيلة الإسقاط، ومن أولئك النفر (أبو الفضل الوليد)، أديب، ومفكّر، وقارئ للتاريخ، غازل الأمجاد العربية والإسلامية في أكثر من قطر، ورثاها في الوقت نفسه عن بعد. أطلق قصائده الموسومة بـ (الأموية)، و(الدمشقية)، و(الأندلسية) فتنبأ لسوء المنقلب والمصير، في المال، والأهل، والوطن، والحضارة، حينما كانت مراسيم التسليم (غير السلمية) تتم للطوائف (العلوية) في بلاد الشام، بقوة السلاح، ورغم أنوف شعوبها. ليس أمام الشاعر والحالة هذه سوى استرجاع ذكريات أمجاد بلاده الثقافية، والذكريات، كما قيل (صدى السنين الحاكي):
كم من قصورٍ وجنّاتٍ مزخرفةٍ
تبكي التمدّن حيناً والعلا حينا
وكم صروحٍ وأبراجٍ ممرّدة
فيها الفنون جمعناها أفانينا
وكم مساجد أعلينا مآذنها
فأطلعت أنجما منها معالينا
وكم جسورٍ عقدنا من قناطرها
أقواس نصرٍ على نهر يرئّينا
إلى أن يقول متهكماً، ساخراً:
وكم يقولون إنا ناصبون لكم
ميزان عدلٍ، ولم توفوا الموازينا
* اليوم، الشاعر الفذّ يدرك أن المساجد التي عمرت بالعبادة ستدك مآذنها في يوم من الأيام، والآثار العربية والإسلامية الشامخة ستطمس، والجسور سيطولها التدمير، كل ذلك ستطوله يد الظلم، والغدر، والخيانة، وستحل النصب التذكارية والتماثيل لرموز النظام الحاكم وأزلامه في (دمشق) محل موازين العدل المزعومة، والوعود المكذوبة.
* اليوم، وقد أوشك (النظام الحاكم) على السقوط، إن لم يكن في حقيقته قد سقط، سيقف الثوار من (الجيش الحر)، ويُسقط أدباؤه على (دمشق) هذه العواطف المغناة، بكل فخر واعتزاز، وبكل شموخ وكبرياء:
من دمعنا قد سقيناها ومن دمنا
ففي ثراها حشاشاتٌ تشاكينا
عادت إلى أهلها تشتاق فتيتها
فأسمعت من غناء الحبّ تلحينا
* على أرض الحرب، والحب، والغزل في (دمشق)، في (فيحاء الشام) ليس من الغريب أبداً أن تجتمع كل هذه العواطف في وجدان الفرد؛ إذ هي موطن لهذه وتلك منذ فجر التاريخ، منذ أن وطأتها أقدام العرب الفاتحين.
* لا قرار على زأرٍ من الأسد، كما قال (النابغة)، ستستعيد ذاكرة النظام الحاكم في (دمشق) كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز (الحدث أكبر من أن تبرره الأسباب.. ومستقبل سوريا بين خيارين، لا ثالث لهما: إما أن تختار بإرادتها الحكمة، أو أن تنجرف إلى أعماق الفوضى والضياع.. ما يحدث ليس من الدين، ولا من القيم، ولا من الأخلاق.. وليس أمامهم سوى تحكيم العقل قبل فوات الأوان، وطرح وتفعيل إصلاحات لا تغلفها الوعود، بل يحققها الواقع..). محاريب بني أمية سيرثها أحفادهم، ومن سار على نهجهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد، يحكم ما يشاء ويختار.
dr_alawees@hotmail.com