الأعوام القليلة التي مضت وضعت المواطن في ما يشبه الدوامة؛ لأنه يحس أن كل شيء حوله يتغير وهو لا يستطيع متابعة هذا التغير. فقد كانت فترة طفرة متسارعة بشكل كبير طالت جميع المجالات، فخادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- استدعى جميع المسئولين وطلب منهم أن يحددوا حاجاتهم المالية لتطوير مؤسساتهم، ثم ضاعفها
لهم وقال له بالحرف الواحد: الآن ليس لكم عذر. البعض منهم لم يصدق عيناه من المبالغ الذي وضعت تحت تصرفه والثقة التي منحت له. وتجاوز الإنفاق الحكومي الألف بليون، والمشاريع الفلكية تشعرك وكـأنك أمام أرقام زيدت في جانبها الأيمن بعض الأصفار من قبيل الخطأ.
البعثات الخارجية لكافة أصقاع الأرض اتيحت لكل من يرغب أن يدرس في الخارج بداية من سن المراهقة. حفر المشاريع أصبحت أكثر من أرصفة الشوارع، الاستثمار فتح على مصراعيه حتى تحول بعض العمال لمستثمرين وأصبحوا يستقدمون ويكفلون عمالة من بلدانهم أيضا. مباني الجامعات الجديدة انتشرت في جميع مقاطعات المملكة وأريافها. قروض المتشفيات وصلت لنصف مليار، فأصبح لكل مستشفى خاص فروع متعددة مثل فروع المطاعم يدوَر فيها أطباء المستشفيات الحكومية، الذين يلعبون راتب الحكومة على المضمون، و راتب المستشفى الخاص للتدرب على المواظبة. ولم يكن واقع التعليم الخاص أفضل حالاً، فالدولة تضمن بعثات داخلية أيضا، وتدفع رسوماً لكل دارس تعادل ما تحصل عليه المدرسة أو الجامعة الخاصة منه، فالتدريب والتعليم الخاص أصبح كالعقار المضمون الاستثمار، فتجاوز عدد الجامعات الخاصة الجامعات العامة. الكل يركض في جميع الاتجاهات لاستغلال الطفرة وكأنهم في سباق معها، أو مع ظروف طارئة مستعجلة. أنجز ما أنجز، وبقي ما هو طور الإنجاز، معتمد للإنجاز، أو متعثر الانجاز. عمل متواصل متسارع بشكل لا يسمح بالمتابعة الدقيقة مما تسبب في تعثر كثير من المشاريع، لاسيما وأن البعض في القطاع الخاص ربما أصيب بنوع من الغصة لأنه مضغ أكثر مما يستطيع بلعه.
وقفة للتأمل والتقاط الأنفاس لا تبدو فقط جيدة بل قد تكون ضرورة، فكثير من المشاريع اعتمدت حسب “مواصفات عالمية”، كما تكرر كليشيهات عطاءات المشاريع المعتادة، وهي في واقعها نفذت بمواصفات عالمية، نعم!، ولكن بمواصفات عالمية “ثالثية”، وبمهارات عمالة فقيرة متسيبة في شوارعنا شجعت على جلبها سياسات الاستثمار الجريئة. و كثير من المشاريع المتعثرة تعثرت لأنها عندما رست على منفذها الحقيقي كانت قد نتفت من كل اللحم والشحم ولم يبق فيه إلا العظم، و تلقفها المسكين رغبة في رفع تصنيفه في مجال المقاولات، فأفلس وانكسر، وانكسر معه المشروع. وبقيت سلسلة من العقود الباطنة المتتابعة قيد نظر المسئول فهي تحتاج لإجراء قضائي طويل لا قبل له به فترك الكثير منها على طمام المرحوم ينتظر أن تعلن هيئة الفساد عن تأخره.
الأموال التي أمر خادم الحرمين الشريفين بتوفيرها لتكون مشاريعنا على أعلى الطرز والمواصفات تمت “فلترة” الكثير منها لمواصفات بعضها اصبح موضع تهكم وتندر المواطنين.
المشاريع الصحية التي اقرتها الدولة ثبت أنها لا تخلو من المشاكل أيضاً، مستشفيات متأخرة، مواصفات مختزلة، إلى آخر الأمور التي يعرفها المواطنون، ولا يمكن أن نلوم أحدا هنا إلا العجلة، لأننا نثق بالمسئولين عن هذا القطاع. ولكننا يجب أن نتوقف ونراجع الاعتقاد الراسخ عند البعض منا بأن المال يحل كل المشاكل وبشكل سريع أيضاً، فلا يكفي أن نشترط أن المواصفات مطابقة لما في الخارج، دون دراستها ودراسة مناسبتها لواقعنا وبيئتنا. و يجب التأني قبل إرساء العطاءات في أسابيع قليلة وعلى مقاولين بدون خبرة سابقة.
الجامعات أيضا، في عمومها وليس جامعة بعينها أو مسئول في ذاته، لم تسلم من الطفرة، فاعتماداتها غير مسبوقة في ضخامتها. والكل أراد أن يطفر سواء بإنجازات حقيقية أو انجازات صورية. كان الناس بين مصدق ومكذب لكثرة الإنجازات العلمية، والبراءات الاختراعية، والقفزات التصنيفية التي انهمرت علينا كالمطر في وقت قياسي وجيز. وكانت بعض أخبار الجامعات أشبه بأضغاث الأحلام التي يراها النائم في قيلولة صيفية طويلة. و قد لا تلام الجامعات في ذلك، فهذه النتيجة المحتومة حين يستحكم من لديه مستوى أكاديمي متوسط على ميزانية لا تتهيأ لأفضل جامعات العالم. فالمال جاء باشتراط الانجاز السريع، ولذلك، فلا مانع من استقدام بعض الخبراء المتقاعدين، والحائزين على جوائز حتى ولو كانت تخصصاتهم الدقيقة لم تصل لجامعاتنا بعد، والتصوير معهم, وبقية الموضوع معروفة. فإذا لم يكن بالمقدور إنجاز حقيقي فلا مندوحة من إنجاز إعلامي صوري. وتعامل البعض مع أموال التطوير التي وضعت بين يديهم بروح التعامل مع المال الطفروي السائب، و لا يلام بعضهم في ذلك لأنهم لا يعرفون آليات التطوير، ونحن لم نقدر ضرورة الاختيار السليم لم يتول أمور معقدة كالتطوير. نعم، هناك مكتسبات مادية، ولكن الضرر المعنوي كان فادحاً، لا أقول ذلك مبالغة، و أتمنى أن يكون هنالك مسح دراسي دقيق لما حدث لجامعاتنا، لا لنرصد ما حققناه ماديا ولكن لرصد الأمور الأكاديمية والمعنوية. مرة أخرى النية من المسئولين صادقة، والتنفيذ لا يرقى لمستوى الطموحات، ومن هنا تبدو ضرورة وقفة التقاط الأنفاس، لأني على ثقة أن المسئولين عن التعليم كانوا يريدون تطويراً حقيقياً لا تطويراً صورياً.
الدولة حفظها الله أغدقت المال أيضا على بعض المشاريع الضخمة في البنية التحتية، والطرق وغيرها، ولم تختلف تلك عن سابقاتها، نجاحات هنا وإخفاقات هناك، و تنفيذ ومواصفات لم تكن بمستوى الحد الأدنى من طموحات الدولة. لن اذكر الطرق، ولا القطارات، ولا بعض المباني الحكومية لأن قضاياها معروفة. والخلاصة أن الاستعجال في المشاريع لا بد وأن يأتي بشيء من الأخطاء بعضها قد يكون غير محمود العواقب.
الدولة حماها الله استشعرت الخطر و أنشأت فورا هيئة لمكافحة الفساد، ولكنى لا اعتقد ان أي هيئة مكافحة فساد في العالم، مهما كان حجمها وكفاءتها تستطيع متابعة الفساد في طفرة تسابق سرعتها سرعة الضوء. البعض يرسي مشاريعه دونما دراسة وكأنما صلاحية أموال الطفرة ستنتهي قريبا، وكأنما الفرصة وليدة اللحظة والساعة، ولذلك فمراقبة كل نشاط في الوطن عملية أشبه بمستحيلة. وكنت أود لو أن الأموال التي ترصد للمشاريع توضع في صندوق خارج وزارة المالية ليطمئن الجميع لصرفها، وتستثمر هذه الأموال في الفترة التي تدرس فيها المشاريع دراسة متأنية من قبل خبراء مختصين، ثم ترسى بشكل مفصل مهني على مؤسسات جادة تنفذها بحرفية عالية لا عجلة فيها ولا سباق مع الزمن، وتحت رقابة مشرفين مختصين. فهذا يتيح أيضا للشركات المنفذة توظيف شباب الوطن، وتحديد حاجاتها من المواد الأولية، أو العمالة بدلاً من تجفيف الأسواق، ورفع معدلات التضخم.
نحتاج لوقفة مراجعة وتأمل أيضاً للنظر في إنجازات المسئولين التي تم تسليم بعضهم مسئوليات، قد لا يكون بعضهم بأهلية كاملة لها، تقييم أدائهم، مراجعة تكاليف مشاريعهم بما يقاس به انجازهم. نحتاج لوقفة لالتقاط النفس، وقفة مع النفس ومع العالم من حولنا، وقفة تتيح لنا جميعا أن نعلم أن القضية ليست قضية طفرة يُغتنى منها، أو مرحلة عابرة نستغلها لصالحنا، بل هي مرحلة بناء وطن، وصناعة مستقبل لنا ولأولادنا وأحفادنا من بعدنا. فقدرنا شئنا أم أبينا ان نعود في المستقبل لما ننجزه اليوم، فإذا غشينا في مشاريعنا، أو انتقصنا مواصفاتها، او حتى سرقنا أموالها، فنحن نغش ونسرق مستقبل ابنائنا ومستقبل وطننا. أليس عيباً علينا أن نمنع الوظائف عنهم، ونزرع اليأس فيهم، في الوقت الذي تمنحنا فيه الدولة مشاريع مضاعفة التكاليف. فالوطنية ليست شعاراً يردد، وليست نشيداً ينشد، وليست زياً يلبس، الوطنية هي أن تحب الوطن وتحافظ عليه، وأن تبنيه وتغار على مواطنيه، وهي أن تحرص على مشاريعه العامة أكثر من حرصك على مشاريعك الخاصة. فالتاريخ لا يذكر من نهبوا أوطانهم، ولكنه يخلد من بنوا اوطانهم. والله من وراء القصد.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif