نيرفانا محمود :
ساهم متغيران أساسيان في تشكيل الصراع العربي الإسرائيلي، الاتجاه الأول هو الراديكالي الذي حاولت فيه الأطراف أن تحل الصراع عن طريق الحرب أو السلام، أما الاتجاه الآخر فذلك الذي كان أقل راديكالية وحاول أن يحافظ على الصراع بدون بذل محاولات خطيرة لحله، (سواء في شكل المقاومة العربية أو الردع الإسرائيلي)، ولكن في السنوات القليلة الأخيرة دخل الصراع في حالة من الشلل التام، حالة اللاسلم واللاحرب.
من المؤكد أن الربيع العربي سيلقي بظلاله على ذلك الصراع الذي اقترب عمره من القرن، بالرغم من أن تأثيره سيكون من الصعب توقعه، فهذا «الربيع» من غير المحتمل أن يفرز أية ديناميكيات مثمرة يمكن أن تساعد على إنهاء الصراع، وذلك لعدة أسباب، أولها أن الدول العربية الآن يستحوذ عليها هاجس تقرير المصير وإعادة بناء مؤسساتها، فالأنظمة الديكتاتورية التي انهارت في بعض الدول مثلت تحديات خطيرة وطويلة الأمد لدول مثل مصر وسوريا، كما أن المنطقة ابتليت بسياسيين فاشلين وقادة سذج يعانون من أجل مواكبة الحقائق الجديدة على الأرض. أما السبب الثاني فهو ضعف فصائل المقاومة، فبالرغم من ورود تقارير عن زيادة تهريب الأسلحة إلى غزة وجنوب لبنان، إلا أنه لا حزب الله في جنوب لبنان ولا حماس في غزة تسمح ظروفهما بتصعيد الهجمات ضد إسرائيل.
في غزة دفعت حماس ثمن استيلائها الأرعن على ذلك القطاع الفقير المدقع، وقد تعلم أعضاء الحركة الدرس بالطريقة الصعبة أنهم لا يستطيعون أن يجمعوا بسهولة بين كونهم حزبًا حاكمًا وميليشيا مسلحة في الوقت ذاته، كما أن حماس أدركت أنها لا يمكن أن تعيش منعزلة بالاعتماد على قدراتها، وهو ما جعلها في النهاية تقبل بوقف إطلاق النار . وعلى الجانب الآخر فإن حزب الله يعاني هو أيضًا من تحديات جسيمة، مثل السقوط المحتمل للأسد في سوريا، وهذا ما دفع حزب الله إلى إعادة النظر في أولوياته، فلم تعد إسرائيل هي هاجسه الأول، على الأقل في الفترة الحالية.
ولكن ذلك الركود في الصراع العربي الإسرائيلي ربما لا يكون بديلاً سيئًا في النهاية، فتلك الحالة يمكن أن تسفر عن «استقرار» وتمنع سيل المزيد من الدماء، ولكن التاريخ في المقابل كثيرًا ما تحدى تلك النظرية، فكل فترة هدوء في خضم الصراعات عادة ما تنتهي بمواجهات دموية.
هناك عدة أسباب يمكن أن تنهي فترة الهدوء الحالي، من بينها اندلاع انتفاضة ثالثة توقعها كثيرون (من بينهم ناثان ثرال في النيويورك تايمز)، وذلك لعدة أسباب، فمن الواضح أن قيادة الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس في مرحلة الغروب، كما أن حركة حماس والقيادة الإسلامية الجديدة في مصر ربما لا يكون لديهما أيضًا حل لمعضلة غزة، ولكنهما يتفقان (بصورة غير معلنة) على عدم تقبلهما لعباس وحركته، فعاجلاً أم آجلاً ستفشل السلطة الفلسطينية في توفير معايير الأمن التي حافظت على الهدوء داخل الأراضي الفلسطينية، وستصبح مسألة وقت فقط قبل أن تندلع الانتفاضة القادمة، فحماس (وآخرون) ينتظرون على أحر من الجمر.
أما الاحتمال الثاني فهو بروز لاعبين جدد، فهذا الصراع أفرز باستمرار جماعات مسلحة جديدة، فقبل 1967 كانت فتح مجرد جماعة صغيرة، وقبل غزو لبنان لم يكن لحزب الله أي وجود. ومع ضبابية مستقبل سوريا لا يجب أن نستبعد احتمالية وجود دولة فاشلة في أعقاب الثورة، وربما تجد إسرائيل نفسها في مواجهة سيناريو متكرر للحالة اللبنانية ولكن بصورة عكسية، بهدوء في جنوب لبنان ولكن بتصعيد من اللاعبين الجدد الذين ربما يتمركزون هذه المرة في مرتفعات الجولان، وبالرغم من صعوبة هذا السيناريو، إلا أنه ليس مستبعدًا على أي حال.
أما السيناريو الأخير فهو في سيناء. فبالرغم من اقتصار المعركة الآن بين الإسلاميين والجنرالات في مصر على تظاهرات الشوارع والنزاعات القضائية، إلا أنه كلما طال أمد الصراع كلما زادت فرص استخدام جبهة سيناء من أجل حشد الدعم الشعبي. وأي تصعيد ربما يستخدم كمبرر لإلغاء معاهدة السلام لدفع المجتمع الدولي للتحرك من أجل منع اندلاع حرب شاملة في المنطقة.
ربما أكون مخطئًا، وربما لن يتحقق أي من تلك التوقعات، وربما تستمر المنطقة في العيش في ظل الحالة الراهنة. ولكن بعد سنوات من مراقبة الصراعات وهي تتكشف، تعلمنا أن الحقائق يمكن أن تفوق خيالنا جنوحًا وتصبح أكثر درامية مما توقعنا، كما أنني أدركت أيضًا أنه كلما طال أمد الصراع زادت الأمور تعقيدًا وتشابكًا.
لقد أصبح الصراع العربي الإسرائيلي جزءًا من تقاليد الشرق الأوسط، ولسنوات استمر اللاعبون الأساسيون في الهروب من فرص السلام، وربما أصبح الشلل الذي نتج عن ذلك مرغوبًا بطريقة ما، كما أننا أيضًا خفضنا من توقعاتنا، وقبلنا فرحين بالتعادل على أنه انتصار، والعناد والتحدي كنجاح، بل إننا تعاملنا بصورة فجة مع قادتنا الذين رغبوا في عقد تسوية سلمية، فلقد واجهوا مصيرًا أكثر درامية من أي من أمراء الحرب الآخرين الذين لم يجلبوا لنا سوى الدمار والدماء والتعاسة.
الكثير من أطراف اللعبة يعلمون في قرارة أنفسهم أن ذلك الصراع لن يحل مطلقًا عبر الحرب، ولكنهم في المقابل يفضلون قبول فترات الركود بدلاً من بذل تسويات وتنازلات جدية للتوصل إلى السلام، وهذا التوجه هو مأساة في حد ذاته، فإذا كانت التسويات والتنازلات مهينة، فالهزيمة والركود ليس شيئًا مشرفًا، لقد حان الوقت لكي يعيد كافة الأطراف النظر في استراتيجياتهم بشأن الحرب والسلام، ولكي يعملا معًا من أجل إيجاد حل جديد للصراع قبل أن يكون الوقت قد فات.
(*) طبيبة ومدونة وكاتبة في شئون الشرق الأوسط
(تيليجراف) البريطانية