كلما تَأَمَّل المرء واقع أُمَّتنا اقتنع - أو كاد يقتنع - بأن كثيراً من المصائب، التي حَلَّت بها، كان بسبب خطل مُتنفِّذين فيها أو متعاونين مع أعدائها بطريقة من الطرق. وقصة مصائب أُمَّتنا؛ لا سيما في تاريخها الحديث والمعاصر، قصة مُتعدِّدة الفصول.
ويمكن أن يقال : إنها بدأت في الربع الأول من القرن الماضي عندما وضع من أولئك الزعماء من وضعوا؛ خطلاً وسوء تدبير، أيديهم في أيدي أعداء هذه الأُمَّة من الأوروبيين، الذين كان منهم من ترسَّخت في نفوسهم عاطفة التصهين. وكان من نتائج ذلك أن وقعت فلسطين العزيزة - وقضيتها أُمُّ قضايا أُمَّتنا الحاضرة - تحت الانتداب البريطاني، الذي مَهَّد الطريق أمام الصهاينة ليثبتوا أقدامهم في تلك البلاد المباركة، ومضوا يُهوِّدونها خطوة خطوة وفق مُخطَّط غاية في الدِّقة والمكر. ولقد اتَّضح لدى البعض الخوف من ضياع القدس بمسجدها الأقصى، الذي بارك الله حوله، قبل عقود وعقود من الآن. وكان ممن عَبَّر عن ذلك الخوف أحد كبار شعراء فلسطين بقوله؛ مخاطباً الملك سعود بن عبد العزيز - رحمه الله - عند ما زار القدس ذات مرة:
المسجد الأقصى أجئت تزوره ؟
أم جئت من قبل الضياع تُودِّعه ؟
وبلغ تَوهُّج المشاعر تجاه ما كان يحدث لفلسطين، قبل أكثر من ستين عاماً، مداه لدى أحد مواطني بلادنا العزيزة؛ وهو الشاعر محمد بن عبد الرحمن الفريح - أَمدَّ الله في عمره -، فقال من قصيدة مُعبِّرة عن تلك المشاعر أبلغ تعبير:
بيعت فلسطين العزيزة عنوة
خسفاً يَجلُّ عن الحِمام و يَعظمُ
راجت بها سوق الحياة فأصبحت
عَرَضاً و صار الحق فيها الدرهم
وبعد نصف قرن من كتابة ما كتبه الشاعر الفريح لم يخب تَوهُّج مشاعر الغضب في نفوس المخلصين من أبناء هذا الوطن على ما يحدث في فلسطين فإذا بالدكتور الشاعر المبدع غازي القصيبي، رحمه الله ، يُعبِّر عن هوان الأُمَّة - وفي طليعتها الزعماء - تجاه قضيتهم؛ مخاطباً الطفل محمد الدرُّة، الذي اغتاله الإجرام الصهيوني، بقوله:
يا فِدى ناظريك كل بيان
بمعاني هواننا يَتوقَّدْ
يا فِدى ناظريك كل زعيم
حظه في الوغى أدان و نَدَّد
يا فِدى ناظريك كل اجتماع
ليس فيه سوى خضوع يُجدَّد
ويُعبِّر عن عجز الأُمَّة و ركوعها لأعدائها؛ مُتحدِّثاً عن الفدائية آيات:
قد عجزنا حتى شكا العجز منا
وبكينا حتى ازدرانا البكاءُ
وركعنا حتى اشمأز ركوع
ورجونا حتى استغاث الرجاء
وشكونا إلى طواغيت بيت
أبيضٍ ملء قلبه ظلماء
وإذا كان أبو عبد الرحمن الفريح قد أشار؛ صادقاً، إلى بيع فلسطين في الأيام التي كتب فيها قصيدته قبل أكثر من ستين عاماً فإن بيع الأوطان كاد يصبح أمراً عاماً. على أن التغيُّر الذي حدث؛ وهو الأسوأ بطبيعة الحال، أن البيع الذي كان سراً قد أصبح الأمر المشين هو ما جعلني أكتب مقالة عنوانها: “ بيع الأوطان بالمزاد العلني”. وقد أصبح هذا العنوان عنواناً لكتابي الذي أصدرته دار الفكر في العام الماضي؛ مُكوَّناً من 184 صفحة مشتملة على 35 مقالة تتناول ما كان يجري على الساحة العربية لها ما لها من أبعاد.
أما بعد:
فعنوان مقالتي اليوم كان عنوان مقالة نشرتها في الصحيفة الغراء قبل عام تقريباً. وقد بَيَّنت في مُستهلِّها مكانة سوريا .. قلب بلاد الشام .. في سويداء فؤاد كاتبها؛ بلاداً كانت إلى وقت ليس ببعيد مقصداً لمن ثقلت عليه وطأة الحياة من سكان وسط الجزيرة العربية بحيث كان يُردَّد المثل الشعبي المشهور القائل: “ الشام شامك إلى من الدهر ضامك.” وكانت هي الربوع التي رأى النور عليها تعريب الدواوين وسَكُّ العملة بالعربية قبل أربعة عشر قرناً في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان؛ وذلك في ظِلِّ الدولة الأموية، التي كان اتِّساع رقعتها منقطع النظير، وكان لها في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك نهضة عمرانية حضارية عظيمة. ثم أصبحت في تاريخ أُمَّتنا الحديث والمعاصر قلباً ينبض بالعروبة من أوضح سماته احترامه الفَذُّ للغة أُمَّتنا العربية بحيث تَبنَّت التدريس بها وحدها في جميع مراحل التعليم.
وكان مما قلته في تلك المقالة:
كم هي شديدة وطأة الألم على نفس كل مخلص لأُمَّته وهو يرى البطش الأعمى الفظيع يُرتكَب فوق ربوع وطن يَودُّه وأهله دون مراعاة لحق الإنسان وكرامته؛ ذكراً وأنثى، شيخاً وطفلاً، ويشاهد التهديم جنونياً لا يُوفِّر في غَيِّه حتى بيوت الله.
وكنت عند بداية الهَبَّة الشعبية في سوريا قد قلت - بعد الحديث عن الهَبَّات في تونس ومصر وليبيا واليمن -: إن الوضع في سوريا وضع مستحكم العُقَد؛ داخلياً وخارجياً. فعلى المستوى الداخلي هناك تَفرُّد في الحكم على أساس حزبي ينظر إليه بعض أفراد الشعب، أو أكثريتهم، على أنه لم يعد حزبياً فحسب؛ بل أصبح، أيضاً، طائفياً مُؤيَّداً كل التأييد من دولة ذات علاقة غير وُدِّية مع العرب - على العموم -؛ ماضياً وحاضراً. و على المستوى الخارجي هناك اهتمام لا مناص عنه لدى تلك الدولة؛ وهي إيران، التي أصبح لها النفوذ الواضح في تسيير دَفَّة الأمور في العراق المجاورة لسوريا، ولدى أمريكا، التي يًهمُّها - بالدرجة الأولى - ما يَهمُّ الكيان الصهيوني المحتلّ لجزء من الأراضي السورية؛ إضافة إلى فلسطين. وكُلٌّ من قادة أمريكا المتصهينة وهذا الكيان الصهيوني يهمُّهما أن يبقى الوضع في المنطقة على ما هو عليه؛ وبخاصة أن تهويد فلسطين - بما فيها القدس - يسير على قدم وساق.
وها هي الحال بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على انطلاقة الهَبَّة الشعبية في سوريا المبتلاة والتقتيل الفظيع و التدمير الشنيع ما زالا يزدادان فظاعة وشناعة؛ وفي مُقدَّمة من يدعم مرتكبها دولة روسيا الاتحادية التي كان لها سوابق مذمومة لا في الدول الإسلامية التي ابتُليت بالخضوع لها فترة من الزمن بالحديد والنار فحسب؛ بل وفي دول إسلامية أخرى كأفغانستان. وكانت السند لمن تَبنَّوا التوجُّه الشيوعي في العراق إبَّان عهد عبد الكرم قاسم وبينهم زعماء الأكراد حينذاك حين ارتكب على أيدي أتباعهم، سنة 1959م، دفن الناس أحياء في كركوك.
وإن كاتب هذه السطور ليكاد يجزم أن أمريكا ذات القوة المتحكِّمة في سير مجلس الأمن بدرجة كبيرة غير راغبة في اتِّخاذ موقف جاد ضد النظام الحاكم في سوريا؛ لا سيما وهي ترى من صالح الكيان الصهيوني أن تستمر عجلة الفضائح المرتكبة في سيرها، وأن يستمر تدمير سوريا تدميراً يصعب تَصوُّر مداه. وما يبدو في الأفق هو أن المجازر التي يسعى المرتكبون لها ستكون أفظع من تلك التي ارتكبوها حتى الآن. على أن المؤمن يرجو من الله المنتصر للمظلوم أن يُقرَّ عيون المظلومين بنصره العظيم، ويكشف الغُمَّة عن هذه الأُمَّة.